بعد استهداف مستشفى الأهلي المعمداني في غزة مساء الثلاثاء 17 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، حاولت إسرائيل تبرئة نفسها من المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 500 شهيد، بروايات متناقضة انتهت باتهام حركة "الجهاد الإسلامي" في قطاع غزة بالمسؤولية عن الاستهداف عبر إطلاقها صاروخًا عن طريق الخطأ على موقف سيارات تابع للمستشفى.
ونشر "العربي" تحقيقًا يكشف كذب الاحتلال حول استهداف المستشفى الأهلي المعمداني.
ومن ضمن الروايات المتناقضة، نشر المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي وصفحة جيش الاحتلال وعدد من الحسابات الإسرائيلية الرسمية الأخرى، مقطعًا صوتيًا زعموا بأنّه لمكالمة بين ناشط سابق في "حماس" وبين أحد سكان قطاع غزة، تحدثا خلالها عن عملية إطلاق صواريخ فاشلة نفّذتها حركة "الجهاد الإسلامي" من المقبرة التي تقع خلف مستشفى المعمداني، معتبرة أنّ التسجيل المزعوم دليل على "إدراك حماس للحقيقة" ومحاولتها إلصاق التهمة بإسرائيل.
وفي التسجيل المزعوم يقول أحد الطرفين: "بس بقلك لأول مرة بنشوف صاروخ زي هيك والشظايا هذه فبقلك تبع الجهاد صواريخ الجهاد الإسلامي يعني". بينما يسأل الآخر ويقول "إنه من عنا هذا؟"، ويجيب الأول عليه "شكله من عنا اه… بحكو إنه الشظايا محلية مش زي شظايا إسرائيل". ويسأل الآخر: "سبحان الله من عنا ما لاقاش غير ينفجر في المستشفى. بتلاقيهم مطلعينو من المقبرة اللي وراء المستشفى المعمداني ونزل عندهم".
عوامل تثير الشكوك
ووفقًا لتحليل موقع "مسبار"، هناك عدد من العوامل التي تُثير الشكوك حول صحة المقطع الصوتي المُسجل الذي نشرته إسرائيل، وهي:
1- توقيت نشر التسجيل
أول هذه العوامل هو توقيت نشره، إذ نُشر المقطع بعد 17 ساعة من وقوع المجزرة في مستشفى المعمداني، وبعد ساعتين من تقديم الرواية الإسرائيلية حول إطلاق صاروخٍ فاشل من قبل "الجهاد الإسلامي" من المقبرة التي تقع قربه. وهو وقت طويل نسبيًا لتسجيل بهذه الأهمية الاستخباراتية.
ناهيك عن أنّ التسجيل كرّر ما جاء في الرواية التي وردت على لسان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري بعد صدورها إلى الملأ، ولم يقدّم أي تفاصيل إضافية أكثر مما قاله هاغاري سواءً حول ما سبق الحادثة أو ما تلاها، أو بين ردود طرفي الاتصال؛ كما لو أن الحديث الذي ورد فيه جاء مطابقًا تمامًا لما تحتاجه إسرائيل لتبرئة نفسها.
2- اللهجة المستخدمة ليست دليلًا
أما العامل الثاني فهو اللهجة المستخدمة، حيث قال أحد أهالي غزة الذي تحدّث إليه "مسبار"، إن اللهجة المُستخدمة في التسجيل قريبة جدًا إلى اللهجة المحلية، إلا أنها تختلف عن طريقة نطق أهالي غزة، عازيًا ذلك إلى أنّ المقطع سجله اثنان ممّن يُدعون بـ "المستعربين".
والمستعربون هم وحدة خاصة في جيش الاحتلال الإسرائيلي يرتدي جنودها ملابس عادية يتقنون اللغة العربية، ويخوضون تدريبات عديدة لإتقان مختلف اللهجات الفلسطينية، بما فيها لهجات أهل القرى والبدو. كما أنّ أغلب أفرادها من اليهود الشرقيين، وهو ما يعني أن ملامحهم تكون عربية ويخضعون لتدريبات شاقة ليتصرّفوا ويفكّروا كالفلسطينيين فلا يستطيع الفلسطينيون تمييزهم لشدة تنكرّهم كالعرب، لذا يسمون بالمستعربين.
3- حديث بالغ الحساسية ليُتداول به هاتفيًا
أما العامل الثالث فهو أنّ الحديث بالغ الحساسية ليتمّ تداوله في مكالمة هاتفية. ففي ظل العدوان الإسرائيلي على غزة، من المستبعد أن تُنقل معلومات بهذه الحساسية من خلال مكالمة هاتفية عادية، في ظل سيطرة إسرائيل المُطلقة على الاتصالات في القطاع.
وذكر موقع "مسبار" أنّه على الرغم من وجود فقرتين في اتفاقية "أوسلو 2" تحدّثتا عن منح الجانب الفلسطيني صلاحيات امتلاك قطاع اتصالات وإنترنت وشبكات بثّ أخرى، إلا أنّ ذلك بقي مقيدًا بسبب انعدام قدرة الفلسطينيين على إتمام تشكيل البنية التحتية لشبكة مستقلة في ظل واقع السيطرة الإسرائيلية على الجغرافيا الفلسطينية وحركة النقل والمعابر والحدود في كامل فلسطين؛ وهو ما يعني عدم التمكن من إقامة الشبكة خارج تبعية وسيطرة الاحتلال إن كان في بنيتها التحتية أو السيطرة على جوهر عملية الاتصالات ونقل المعلومات من خلال هذه الشبكة.
وأضاف الموقع أنّ الفقرة الثانية من الاتفاقية تقيّد الجانب الفلسطيني باستخدام هذه الأجهزة فقط عند تشغيل الشبكة الفلسطينية المستقلة، والتي لن تتم كون الاحتلال لم يُتح للفلسطينيين ما يوصلهم لهذه الشبكة بشكل مستقلّ، بل وضعهم في مساحة يبقوا فيها مرهونين لاستقدام هذه الشبكة وخدماتها من الاحتلال ويبقى تحت تطويقه ورقابته من خلالها.
أما على صعيد الإنترنت، فأفاد "مسبار" أنّ الأدوات "الإسرائيلية" تُحاصر الفضاء الرقمي في غزة بمنظومة متعددة الطبقات تحكم عملية تدفّق الإنترنت إلى القطاع، وتحرص على نزعه فعاليته الكاملة، والرقابة على العمليات التي تجري من خلاله.
كما ينطبق هذا الأمر على الشكل اللوجستي لعملية تدفق الإنترنت إلى قطاع غزة. فمن خلال مجموعة حوادث وقعت في سنوات سابقة على حدود القطاع، يظهر جليًا كيف يُطبِق الاحتلال بحصاره على شبكة الإنترنت في قطاع غزة، وكيف أنّه يُسيطر على تدفق المعلومات عبر هذه الشبكة.
وأكد الموقع أنّ هذه المعلومات مفتوحة المصدر ومتاحة للعامة، لذا من الأجدر أن يكون أعضاء حركة "حماس" على علمٍ بها، وأن لا يشاركوا معلوماتٍ بالغة الحساسية كالتي وردت في التسجيل الذي نشرته إسرائيل عبر مكالمة هاتفية.
4- لا دليل على رؤية الوقائع
العامل الأخير الذي يُثير الشكوك حول دقّة التسجيل المنشور واعتماده دليلًا لتورط فصائل المقاومة الفلسطينية في حادثة قصف مستشفى المعمداني، هو طريقة تقديم المعلومات الواردة فيه. إذ اعتمد فيه طرف الاتصال الأول صيغة النقل عن الغائب في حديثه للآخر.
وقال الطرف الأول: "بيقولّك أول مرة بيشوفوا صاروخ زي هيك والشظايا هذي فبيقولك الصواريخ تبع الجهاد الإسلامي يعني"، مضيفًا: "بحكو إنه الشظايا تبعة الصاروخ محلية مش زي شظايا إسرائيل". فيما لم يذكر أنه رأى أيًا مما قاله بعينه.
وبالنظر إلى توقيت نشر المقطع بعد ساعات من تصدير الرواية الإسرائيلية للعالم، بالإضافة إلى عدم وجود ما يشير إلى أن الطرفين هما أعضاء من حركة "حماس"- باستثناء ادعاء إسرائيل أنهما كذلك- فإن المقطع لا يعني سوى نقل ما سردته الرواية الإسرائيلية غير المقنعة، ولا يقدّم أي دليل تورط أو إدراك من قبل المقاومة.
كما أنّ المستشفى المُستهدف يُعتبر من أشهر المنشآت الصحية في قطاع غزة، ومعروف لمعظم سكان القطاع. لذا، من المتوقّع أن يكون أعضاء حركة "حماس" التي تسيطر على قطاع غزة منذ 16 عامًا، على علم بموقع المستشفى الجغرافي، بخلاف ما ورد في المقطع، والذي بدا وكأنّه دليل صوتي لمن لا يعرفون جغرافية المنطقة.