يُعتبر أبو مصعب السوري من أبرز منظري فكر الجهاد العالمي، كما يصفه أتباع هذا التيار؛ وفيما تراه الولايات المتحدة إرهابيًا، يراه النظام السوري تابعًا لجماعة "الإخوان المسلمين".
يقول الكاتب والباحث السوري حسام جزماتي عنه أنّه كان "منظّرًا عسكريًا ومنظّرًا شرعيًا ومنظّرًا سياسيًا للتيار الجهادي"، فيما يشير الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية عباس شريفة إلى أنّ شخصيته لم تكن شخصية أحادية التركيب أو ذات طفرة واحدة.
ويوضح أنّه تعرّض لعدّة تحولات منهجية وفكرية في حياته، وفي كل مرحلة، كان هناك شخصية معيّنة يتأثر بها أبو مصعب من خلال قربه من هذه الشخصية أو انتقاله إلى تجربة جهادية أخرى.
فمن هو "أبو مصعب السوري" أو عمر عبد الحكيم أو مصطفى ست مريم، الذي غُيّب قسرًا في أكثر من سجن حول العالم؟ وهل يُعرَف مصيره؟
ناشط مع الحركة الإسلامية
وُلد مصطفى ست مريم المعروف باسم عمر عبد الحكيم أو أبو مصعب السوري لعائلة محافظة في مدينة حلب السورية عام 1958.
تأثر بأفكار الشيخ مروان حديد ما ساهم ببروزه ناشطًا مع الحركة الإسلامية بجامعة حلب أثناء دراسته هندسة الميكانيك أواخر سبعينيات القرن الماضي، فانضمّ إلى صفوف الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين التي اعتمدت أسلوب حرب العصابات لمواجهة نظام حافظ الأسد في تلك الفترة.
وشهد عام 1980 خروج العديد من أعضاء الطليعة المقاتلة من سوريا إلى دول الجوار، وكان من بينهم أبو مصعب السوري حيث التحق بمعسكرات إعداد المقاتلين التابعة للطليعة المقاتلة في الخارج.
وبعد اقتحام النظام السوري مدينة حماة في فبراير/ شباط عام 1982، انضم إلى معسكر النفير لنجدة حماة الذي دعت إليه جماعة الإخوان المسلمين.
يقول شريفة إنّه في هذه المرحلة لم يقتصر على التنشئة الفكرية، وإنما اكتسب الخبرة العسكرية والأمنية، فأصبح مُعَدًّا ميدانيًا من أجل القتال.
وبعد ذلك، أصبح أحد القادة العسكريين الذين يعوّل عليهم الإخوان المسلمون من أجل التحرك داخل البلد، وفي ذلك الوقت، كان أيضًا أحد أعضاء القيادة العسكرية التي كانت على اجتماع متكرر مع القيادة السياسية للإخوان، بحسب جزماتي.
ويشير إلى أنّ انهيار الجهادية السورية في ذلك الوقت، واحتكاك أبو مصعب برموز الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، ورأيه الذي تشكّل بهم أنّهم دنيويون، جعلته يفترق عن الإخوان، وينفصل بالتالي عن التنظيم.
القتال في أفغانستان
بعد إعلانه الانفصال عن جماعة الإخوان المسلمين عام 1983، تنقّل أبو مصعب السوري بين بلدان عربية وأوروبية عديدة في محاولة لإيجاد الدعم والتمويل اللازمين لإعادة إحياء العمل الجهادي في سوريا.
تأثر أبو مصعب بشخصية وأفكار عبد الله عزّام، ورأى فيه النموذج الذي يبحث عنه؛ فالتحق بركب المجاهدين العرب لقتال القوات السوفيتية في أفغانستان، حيث كان الجهاد يحظى بدعم وتأييد أميركي.
وبعد مدة من تعرفه على عزّام ثم على زعيم القاعدة أسامة بن لادن، بات أبو مصعب أحد أهم العقول المنظرة لإستراتيجيات الجهاد العالمي.
ويوضح شريفة أنّ أبو مصعب سيتأثر في هذه المرحلة بالآراء السلفية، وسيتحوّل بالتالي من الفكر الصوفي إلى الفكر السلفي، وهنا ستبدأ ملامح التشدّد بالظهور عند أبو مصعب.
من الجهاد في أوروبا إلى الاعتقال
قام تنظيم القاعدة بعدة عمليات في أوروبا، مثل تفجيرات قطارات باريس عام 1995 ولاحقًا تفجيرات قطارات مدريد عام 2004 وتفجيرات لندن عام 2005.
واتهم أبو مصعب السوري بهذه الهجمات للاشتباه في تشكيله جماعات جهادية في أوروبا، ولكونه أوّل من أشار في كتبه لفكرة الجهاد في الغرب.
وفي سياق الدفاع عن نفسه، نفى أبو مصعب مسؤوليته عن تلك التفجيرات في تسجيل صوتي، وإن أشاد خلاله بالمنفذين. لكن لا يُعرَف تاريخ التسجيل الذي ظهر للعلن بعد القبض عليه.
بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، أعلنت واشنطن الحرب على الإرهاب، فهاجمت أفغانستان واحتلت عاصمتها كابل التي كان أبو مصعب السوري مقيمًا فيها، لكنه على وقع الهجمات خرج منها واختبأ في باكستان.
بعد ذلك، أعلنت الولايات المتحدة عن جائزة مادية قدرها 5 ملايين دولار مقابل معلومات تساعد في إلقاء القبض عليه، وهو ما حدث في عام 2005 في مدينة غويتا الباكستانية.
استطاع فريق "العربي" الوصول إلى أحد أقارب أبي مصعب السوري، الذي وافق على الحديث مشترطًا إخفاء صورته وتغيير صوته خوفًا على سلامته.
وقال إن اعتقال أبي مصعب تم بسلاسة في مداهمة لقوات الأمن الباكستانية لمنزله، حيث استغلت هذه العناصر مشكلة صحية كان يعاني منها في تلك الفترة، فلم ينتبه لوجود القوات الأمنية داخل مسكنه.
تسليم "سري" إلى النظام السوري
وبعد اعتقاله في عام 2005، مرّت على أبي مصعب السوري أيام قليلة في غرف تحقيق الاستخبارات الباكستانية قبل تسليمه إلى الأميركيين، حيث نُقل إلى جزيرة دييغو غارسيا في المحيط الهادئ.
ورغم أن مصطفى ست مريم يحمل الجنسية الإسبانية، سلّمته الولايات المتحدة عام 2007 إلى النظام السوري بشكل سري. وفي هذا الوقت كانت زوجته تبحث بكل الطرق القانونية الممكنة لمعرفة مكان ومصير زوجها.
بعد مرور الأيام والسنين وعدم الحصول على أي معلومة عن مصير أبي مصعب السوري، تقدّمت زوجته بطلب إلى السلطات الإسبانية بمساعدة منظمة العفو الدولية لمعرفة مصيره في السجون السورية.
ويقول شريفة إنّه لم يُعطَ أيّ حق من حقوق المسجونين أو المعتقلين لا بالزيارات ولا بالأخبار عن مصيره، حيث لم يكشف النظام عن مصيره، ولم يحظَ حتى بمحاكمة عادلة، وتمّ التعامل معه بالعقلية البلطجية والأمنية وإرهاب الدولة الذي يعتمد عليه النظام.
الثورة السورية والمصير اللغز
ومع مرور السنة السادسة على اعتقال أبي مصعب وغياب أي معلومة عن مصيره، قامت في سوريا عام 2011 ثورة طالبت بإسقاط النظام.
وفي هذا الوقت، بحسب مراقبي المشهد السوري، وجد النظام بالسجناء الإسلاميين فرصة لتحويل الثورة السلمية إلى مسلحة، فأصدر عفوًا عن الكثيرين منهم.
لكنّ هذا العفو لم يشمل أبو مصعب السوري لأنه رفض التوقيع على التبرؤ من أفكاره والتعهد بعدم القيام بأعمال جهادية وعسكرية، باعتبار أنّه مؤلف وكاتب ومنظّر، ومثل هذا التوقيع سيكون فضيحة برأيه.
وبعد عام 2012، ظهرت أنباء جديدة عن وجود أبي مصعب السوري حيًا في سجون النظام، بعد طرح اسمه لتبادل السجناء مع فصيل أحرار الشام، وهو ما يؤكده الفاروق أبو بكر، وهو أحد مفاوضي فصيل أحرار الشام.
ويقول أبو بكر: "كنت في فترة من الفترات مسؤول شؤون الأسرى في أحرار الشام، فكنت أقوم بمفاوضات تبادل مع النظام، ولأكثر من مرة كان النظام يعرض عليّ أبو مصعب السوري، وقد نقلت العرض لعدّة شخصيات أنّ أبو مصعب السوري معروض من قبل النظام أن يُطلَق سراحه مقابل مئة أسير من أسرى نظام الأسد، فهو كان يدرك قيمة هذا الرجل ووزنه لدى الجهاديين، لكن العدد الذي طلبه النظام وجد رفضًا من الفصائل".
في النتيجة، تمر السنوات وتتضاءل المعلومات عن أبي مصعب السوري الذي لُقب بمهندس الجهاد العالمي ويظلّ مصيره لغزًا. أمّا إرثه وأفكاره المنتشرة بين المجتمعات الجهادية بمختلف أطيافها، فيظلّ الجدل حولها حيًّا لا ينتهي.
المزيد عن سيرة أبي مصعب السوري وخفايا اختفائه في الحلقة المرفقة من سلسلة "مختفون" الوثائقية.