الأربعاء 1 مايو / مايو 2024

"طالبان وتذكرة العودة".. خفايا عقدين من الوجود الأميركي في أفغانستان

"طالبان وتذكرة العودة".. خفايا عقدين من الوجود الأميركي في أفغانستان

Changed

الجزء الثاني من وثائقي "طالبان وتذكرة العودة" يكشف تفاصيل وأسباب عودة طالبان للحكم بعد عشرين عامًا من هزيمتها على يد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية عام 2001 (الصورة: غيتي)
حاول الأميركيون والحلفاء تشكيل أفغانستان كدولة حديثة، لكنهم بنوا حكومة أفغانية تلاحقها تهم الفساد ومختلة وظيفيًا سقطت قبل أن يكتمل انسحابها من البلاد.

إنّه أطول نزاع مسلح في تاريخ الولايات المتحدة، ذلك الذي بدأت حكايته في ديسمبر/ كانون الأول 2001، حين سيطرت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها على أفغانستان.

على امتداد هذه الحكاية الطويلة، قدّم ثلاثة رؤساء أميركيين وعودًا بإنهاء النزاع، وهم جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترمب، لكنهم جميعًا لم يتمكنوا من الوفاء بوعودهم. 

وخلال عقدين من الزمن، حاول الأميركيون والحلفاء تشكيل أفغانستان كدولة حديثة، لكنهم بنوا حكومة أفغانية تلاحقها تهم الفساد ومختلّة وظيفيًا، سقطت قبل أن يكتمل انسحابها من البلاد.

عن هذه المرحلة وما حملته، يسلّط وثائقي "طالبان وتذكرة العودة" الضوء في جزئه الثاني، حيث يتطرف لكواليس مسار بناء الدولة الأفغانية بعد سقوط طالبان وسيطرة واشنطن على أفغانستان.

"الدروس المستفادة"

كان "الدروس المستفادة" عنوانًا حمله مشروع الكونغرس الأميركي للتحقيق في ما جرى في أفغانستان، حيث تولاه مكتب المفتش الخاص بإعادة إعمار أفغانستان والمعروف باسم "سيغار"، وأجرى خلاله مقابلات مع أشخاص لعبوا دورًا مباشرًا في الحرب.

استطاعت صحيفة "واشنطن بوست" الوصول إلى آلاف الوثائق الحكومية السرية بعد معركة قانونية استمرت ثلاث سنوات. وركّزت العديد من الوثائق على حجم هائل من الفساد وعن عدم امتلاك الولايات المتحدة خطة لما تريد فعله خلال تواجدها في أفغانستان. 

ووفقًا لإحدى الوثائق، اختصر مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية هذه السنوات بالقول: "إذا كنت سأكتب كتابًا فسيكون غلافه (أميركا تذهب إلى الحرب من دون أن تعرف سبب قيامها بذلك). دخلنا كرد فعل على أحداث 11 سبتمبر دون أن نعرف ما كنا نحاول تحقيقه". 

سنوات من "الفشل الذريع"

في السياق نفسه، يقول الضابط المتقاعد من الجيش الأميركي جايسون ديمبسي: "في هذه السنوات أُريقت الدماء بغزارة كما جرى تبديد ثروات البلاد، وأظهرت فشلًا ذريعًـا للجهود الأميركية التي كشفت عن قدر كبير من الغطرسة والثقة الزائدة والجهل حول قدرة الولايات المتحدة على إعادة تشكيل العالم وكيفية عمله". 

من جهته، يلفت رونالد نيومان الذي شغل منصب السفير الأميركي في أفغانستان بين عامي 2005 و2007 إلى أن أفغانستان كانت دولة مدمَّرة عندما اندلعت الحرب عام 2001، حيث لم يكن لديها أي نظام تعليمي تقريبًا، وكان اقتصادها مشلولًا، مشيرًا إلى أنه "على مدار عشرين عامًا تم بناء الكثير". 

خططت أميركا وحلفائها للقضاء على القاعدة والإطاحة بطالبان ومنع تكرار هجمات 11 سبتمبر- غيتي
خططت أميركا وحلفاؤها للقضاء على القاعدة والإطاحة بطالبان ومنع تكرار هجمات 11 سبتمبر- غيتي

ويتحدّث الدبلوماسي البريطاني السابق تيم ويلسي بدوره، عن "إنجاز العديد من الأعمال الرائعة" في أفغانستان، مشيرًا إلى أنه تم التركيز على مسألة تعليم الإناث، كما تم تطوير البنية التحتية، مضيفًا: "لقد تم تغيير كابل بشكل كامل". 

لكن اللورد ديفيد ريتشاردز، قائد قوات إيساف في أفغانستان في عامي 2006 و2007، يعتبر "أن الحرب بدأت بكثير من الوعود وانتهت بفشل ذريع"، على حدّ وصفه. 

ويتساءل أستاذ العلوم السياسية في جامعة كابل فيض زلاند: "لماذا لا تزال أفغانستان في عام 2022 من أفقر دول العالم إذا كانت هذه المليارات أنفقت على التنمية؟ ولماذا لا تزال الأمهات وأطفالهنّ يواجهون الموت بسبب نقص الرعاية الصحية عند الولادة؟". 

مؤتمر بون وإقصاء طالبان

بعد أن أطاحت القوات الأميركية وقوات التحالف بنظام طالبان، دعت الأمم المتحدة لعقد مؤتمر في مدينة بون الألمانية أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2001 لاتخاذ قرار بشأن الحكومة الأفغانية المستقبلية. وقد حضر المؤتمر ممثلون عن جميع الأحزاب السياسية الأفغانية، باستثناء مسؤولي طالبان والحزب الإسلامي. 

وتحدّث بارنيت روبن، الخبير الأكاديمي الأميركي في الشؤون الأفغانية والذي عمل مستشارًا للأمم المتحدة، بصراحة في مقابلته مع "سيغار"، جيث كشف عن اهتمام من قبل طالبان للمشاركة في مرحلة تأسيس البلاد.

وقال روبن: "كان قادة طالبان الرئيسون حريصين على منح النظام الجديد الفرصة، لكننا في المقابل لم نمنحهم الفرصة"، مضيفًا: "أراد الجميع أن تختفي طالبان".

كما خلص مسؤول آخر في الأمم المتحدة، تم إخفاء اسمه إلى هذا الاستنتاج، حيث أورد في شهادته: "في هذا الوقت كان معظم قادة الحزب الإسلامي وطالبان مهتمين بالمشاركة في الحكومة. الدرس المستفاد: إذا سنحت لك الفرصة للحديث مع طالبان، فتحدث معهم". 

وتقول عضو مفاوضات السلام الأفغانية فاطمة جيلاني: "كان يجب أن يكون لدينا دستور وبرلمان ومقرّ، ويجب أن تتشارك جميع الأطراف في صياغة هذا الدستور وبكل اللغات وبمشاركة جميع الأطياف، السنّة والشيعة وحتى غير المسلمين الموجودين في أفغانستان". وتضيف: "كان الجميع موجودين باستثناء جماعة واحدة غائبة، وهي طالبان".

لكنّ تيم ويلسي يقول إنّه في ذلك الوقت، "لم تكن هنالك أيّ فرصة لإقناع الأميركيين بالجلوس على طاولة واحدة مع طالبان"، معتبرًا أنّه كان "ردّ فعل عاطفيًا لما حدث في 11 سبتمبر، لأنّ طالبان سمحت باستخدام الأراضي الأفغانية لشنّ الهجوم".

واشنطن لم تكن "راغبة" في بناء الدولة

اختتم مؤتمر بون واختير حامد كرزاي رئيسًا للحكومة الأفغانية المؤقتة، لحين إقرار دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات رئاسية.

حينها، بدا للعيان أن الولايات المتحدة الأميركية والحلفاء يتجهون لوضع أسس للدولة الوليدة، لكنّ الرؤساء الأميركيين المتعاقبين شدّدوا على أن الولايات المتحدة لن تتعثر في عبء بناء الدولة في أفغانستان. 

ولم يتردّد مسؤول أميركي رفيع المستوى في وزارة الخارجية بتأكيد عدم رغبة الرؤساء الأميركيين بهذا المسار، حيث قال: "في الحقيقة لم نكن جادين في بناء الدولة، بل لم نكن راغبين في ذلك من صميم قلوبنا لكنّنا أجبرنا عليه". 

ويقول رونالد نيومان في هذا الإطار: "عندما اجتاحت أميركا أفغانستان، لم تكن تسعى لحكمها. لم تكن ترغب في البقاء، وهنا تكمن المشكلة. أعتقد أننا أهدرنا أسهل السنوات عندما كان بإمكاننا مساعدة الحكومة الأفغانية في بناء مؤسساتها وتطويرها، والتي لم تكن حينها فاسدة تمامًا. لم نقم بفعل ذلك لأننا لم نكن نرغب في البقاء".

أسفر مؤتمر بون عن اختيار حامد كرزاي رئيسًا للحكومة الأفغانية المؤقتة - غيتي
أسفر مؤتمر بون عن اختيار حامد كرزاي رئيسًا للحكومة الأفغانية المؤقتة - غيتي

وبالفعل، تجلى تركيز الولايات المتحدة على توفير الأمن بعيدًا من بناء الدولة في أفغانستان بوضوح في وثيقة سريّة أفرج عنها ضمن مذكرات رامسفيلد.

عرفت تلك التسريبات باسم "رقاقات الثلج" وكانت تحمل تاريخ 17 أبريل/ نيسان 2002. وجاء فيها: "لن نخرج الجيش الأميركي من أفغانستان ما لم يتم توفير الاستقرار والظروف الآمنة والتي يمكن على إثرها أن نغادر".

غياب الخطة الأميركية

تورد وثائق "سيغار" عن روبرت فين الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان بين عامي 2002 و2003، قوله للمحققين: "عندما ذهبنا إلى أفغانستان كان الحديث يجري عن بقائنا فيما لمدة عام أو عامين، ولكنني قلت لهم إننا سنكون محظوظين إذا تمكنا من الخروج منها خلال 20 عامًا".  

ففي البداية، كانت الخطة تهدف للقضاء على القاعدة والإطاحة بطالبان ومنع تكرار هجمات 11 سبتمبر، ولكن بعدها تعدّدت القيادات العسكرية وتعدّدت الخطط. وعبّر العديد من الشخصيات أثناء مقابلتهم مكتب "سيغار" عن عدم وضوح الرؤية والخطة المراد تنفيذها في أفغانستان.

وبالفعل، تساءل عن ذلك مسؤول أميركي تم إخفاء اسمه لكنّه وُصف بأنه كان يعمل كضابط اتصال مع حلف شمال الأطلسي، حيث سأل: "ما الذي كنا نفعله على وجه التحديد في ذلك البلد؟ ما هي أهدافنا؟ هل كنا هناك لإعادة بناء الدولة أم لاستعادة حقوق المرأة؟ في الحقيقة لم تكن الأهداف واضحة في أذهاننا وكذلك الوقت اللازم لإنجازها". 

ويؤكد مؤلف كتاب "طالبان في الحرب" الباحث أنطونيو جوستوزي هذا المنحى، حيث يقول: "أصبح هناك انطباع بأنّ الأميركيين ذهبوا إلى أفغانستان بدون رؤية واضحة لما يتوجّب عليهم القيام به هناك. في البداية، كانت القوات التي تواجدت هناك قليلة، ولم تكن تكاليفها مرتفعة، وكانوا يأملون أن يتمّ نقل جزء كبير من مسؤولياتهم إلى حلفائهم، وتشكيل جيش وطني وقوات من الشرطة المحلية تتولى السيطرة على البلاد".

حرب أفغانستان المنسيّة وغزو العراق

بعد سيطرة القوات الأميركية وقوات التحالف على أفغانستان، قرّر جورج دبليو بوش الإبقاء على قوة محدودة العدد في البلاد إلى أجل غير مسمّى لمطاردة الإرهابيين المشتبه بهم، وقام بالإعداد لغزو العراق. 

وبالنسبة للعديد ممن خدموا في أفغانستان وقدمّوا شهاداتهم لـ"سيغار"، فإنه بمجرد تمركز القوات الأميركية في العراق أصبحت أفغانستان حربًا منسية. 

ويقول دوغلاس لوت، سفير الولايات المتحدة السابق لدى "الناتو" والذي كان قد خدم برتبة جنرال ذي ثلاث نجوم في الجيش خلال إدارتي بوش وأوباما: "لو كنا أحسنّا استغلال الظروف عندما كانت حركة طالبان ضعيفة ومفككة لكانت الأمور مختلفة، ولكننا بدلًا من هذا ذهبنا إلى العراق".  

 ويقول الضابط المتقاعد من الجيش الأميركي جايسون ديمبسي في هذا السياق: "بعد عام 2001 لم يكن لدينا متّسع من الوقت لتقييم ما حدث، فقد قرّر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد بعد هجوم 11 سبتمبر، أنّ الحرب الأهم والأولوية هي غزو العراق".

من جهته، يقول تيم ويلسي: "لقد استحوذت الحرب في العراق على كلّ خيالنا وإبداعنا، وأخذتهم بعيدًا عن أفغانستان، فقد تحوّل اهتمام الجميع نحو العراق لعدّة سنوات قبل أن يعود إلى أفغانستان مجدّدًا. وخلال هذه الفترة، لم تعد أفغانستان قصة نجاح حقيقية، وأنا أعنيها. لقد كان الذهاب إلى أفغانستان بين عامي 2002 و2005 تجربة رائعة".

الانتخابات الرئاسية والديمقراطية "الزائفة"

في الأول من مايو/ أيار 2003، وبينما كان بوش يقف على حاملة طائرات، أعلن إنهاء العمليات القتالية الرئيسة في العراق. وفي اليوم نفسه، زار وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد مدينة كابل وأعلن إنهاء العمليات القتالية الرئيسة في أفغانستان.

بحثت سلطات الاحتلال عن بدء مسار ديمقراطي في البلاد يفضي إلى إجراء انتخابات حرة تفرز قيادات أفغانية منتخبة. لكنّ العقيد في الجيش الأميركي بوب كرولي شكك في هذه الإستراتيجية المتبعة، حيث قال: "كان هناك عدد من الافتراضات الخاطئة في الإستراتيجية وهي أن أفغانستان مستعدة للديمقراطية بين عشية وضحاها، وأن الشعب الأفغاني سوف يدعم الحكومة خلال وقت قصير". 

حينها، صوّت الشعب الأفغاني في أول انتخابات رئاسية تمّ تنظيمها عام 2004، واختار حامد كرزاي، الذي كان "الأقلّ إثارة للجدل من بين المرشحين الآخرين الذين كان على الشعب الاختيار من ضمنهم"، بحسب ما يقول مدير دراسات أفغانستان في معهد الشرق الأوسط مارفن وينباوم.

وفيما يقول السفير وليام باتي إنّ العلاقة بين كرزاي والغرب في البداية كانت جيّدة جدًا، يتحدّث سفير طالبان الأسبق في باكستان عبد السلام ضعيف عن "ديمقراطية زائفة" أسّست لها واشنطن، قائلًا: "في أميركا، يحقّ لأيّ مواطن أميركي أن يرشح نفسه للرئاسة، لكنّ هذا الأمر لم يكن مُتاحًا في أفغانستان، حيث لا بدّ للمرشح أن يكون من صنع أميركا لكي يتمكن من ذلك".

ويتّفق أستاذ العلوم السياسية في جامعة كابل فيض زلاند مع هذه المقاربة، حيث يقول: "كان النموذج الديمقراطي الذي تطبّقه أميركا وتدعمه في أفغانستان، عبارة عن مهزلة، فهو نموذج فريد في العالم، لأنّ الديمقراطية تحتاج إلى توافر أحزاب سياسية على مستوى البلاد. أما في أفغانستان، فتمّ تنظيم أربع جولات من الانتخابات الرئاسية، ولم يكن للرئيس المنتخب فيها أيّ حزب سياسي".

"مصدر القوة" بالنسبة إلى حامد كرزاي

من جهته، وصف ريتشارد باوتشر الذي عمل في عهد بوش بصفته المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، أسلوب كرزاي في الحكم، قائلًا: "كان يعتمد على أصدقائه، هذه هي الطريقة التي أدار بها أفغانستان: بالاعتماد على الأصدقاء والأنصار والحكّام المحليين. هذا هو مصدر القوة بالنسبة له، وليست تلك القوة التي أوجدتها أميركا".

وأضاف: "كان من الصعب حقًا جعله يستخدم هيكل الحكم الذي وضعناه والذي أخبرناه أنه يجب أن يكون لديه. قلنا: عليك أن تعمل من خلال هذا النظام الديمقراطي البيروقراطي كما هو الحال في أميركا". 

وبعد تولي كرزاي الحكم، بدأ النقاش حول كيفية إعادة تشكيل جيش وطني وتحديد مهام هذا الجيش، لكن نشأت خلافات حول تعداد الجيش، حيث طالبت الحكومة الأفغانية بجيش يقدّر تعداده بأكثر من 250 ألفًا لإحكام السيطرة على بلاد مترامية الأطراف، لكنّ الأميركيين وافقوا على 70 ألف مقاتل. 

ومن جهته، قال المتحدث السابق باسم الجيش الأفغاني المنحل دولت وزيري: "إنه بدأ بناء الجيش الذي وصل عدد أفراده إلى 190 ألفًا لكنه كان يفتقر للسلاح الجوي ولجهاز الاستخبارات العسكرية والقسم الهندسي وقسم اللاسلكي والقوات المدرعة والقوات الدفاعية"، معتبرًا أن الأميركيين لم يتمكنوا من بناء الجيش الذي تحتاج إليه أفغانستان بسبب اعتماد نظام المحاصصة بين القبائل. 

طالبان تعيد ترتيب نفسها على الأرض

وبينما كان الجيش الأفغاني في طور البناء، أعادت طالبان ترتيب نفسها على الأرض بشكل تدريجي، وبدأت بعمليات عسكرية تستهدف القوات الأميركية والتحالف. 

في المقابلات التي أجراها "سيغار"، انتقد دوغلاس لوت وهو ملازم أول في الجيش الأميركي، وخدم في البيت الأبيض في عهد الرئيسين بوش وأوباما، السياسات الأميركية في إعداد جيش أفغاني قوي.

يقول لوت: "لقد حصلنا على القوات الأفغانية التي نستحقها". ويلفت إلى أن الاهتمام كان منصبًا على العراق في ذلك الوقت بنسبة 90%، بينما حظيت أفغانستان بـ10% فقط، وأنه حتى عام 2007 "كان يُنظر لأفغانستان كجهد ثانوي". 

أعادت طالبان ترتيب نفسها على الأرض بشكل تدريجي - غيتي
أعادت طالبان ترتيب نفسها على الأرض بشكل تدريجي - غيتي

ومع زيادة العمليات الهجومية التي تنفذها طالبان كثّف مدربو الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي البرامج التدريبية للجيش والشرطة الأفغانية. 

ويقول اللواء المتقاعد في الجيش البريطاني تشارلي هربرت: "جاءت المشكلة في تصوّري أننا في العامين 2006 و2007، انتقلنا من محاولة التركيز على رفع كفاءة قوات الأمن الأفغانية إلى التركيز على الكمّ، لمحاولة زيادة حجم قوى الأمن والجيش بشكل كبير، وقمنا بتدريب عشرات الآلاف كلّ عام، وإلحاق أعداد كبيرة في دورات قصيرة استُخدِمت فيها معدّات محدودة لم تكن كفيلة بإكسابهم المهارات المطلوبة للقتال".

"فارق" في علاقة كرزاي بالأميركيين

في أغسطس/ آب 2009، توجه الأفغان إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيسهم، وأظهرت النتائج فوز كرزاي من جديد. لكنّ تحقيقًا أجرته لجنة مدعومة من الأمم المتحدة في ادعاءات بالتلاعب بالنتائج، خلص إلى أن كرزاي حصل على مليون صوت بطرق غير قانونية، ما مثّل ربع الناخبين، فشكّلت تلك اللحظة فارقًا في علاقة كرزاي بالأميركيين. 

وفي هذا السياق، قالت سارة تشايز التي عملت مستشارة مدنية للجيش الأميركي في ذلك الوقت: "كان ذلك مدمرًا للغاية لمبدأ سيادة القانون ومحبط للغاية وكان بإمكاننا إصلاح الانتخابات وكان لدينا فرصة للقول إن مواجهة الفساد أمر مهم، ولكن تم إصدار توجيهات بتجاهل ذلك".

وعن هذه المحطة، يقول السفير وليام باتي: "بعد الانتخابات الثانية، ظنّ كرزاي بأنّ الأميركيين يسعون إلى عزله، وهذا أثّر في علاقته مع الأميركيين، وأعتقد أنّه طوال الوقت الذي كنت فيه هناك، اعتبارًا من العام 2009، كان متشكّكًا جدًا في الأميركيين، وكانت لديه قناعة بأنّ السياسة الأميركية خاطئة وأنهم كانوا متساهلين للغاية في علاقتهم بباكستان وأنهم يحاولون التخلص منه".

الفساد في أفغانستان وقضية بنك كابل

بيد أنّ الفساد الذي قاد لتغيير نتائج الانتخابات رافقه فساد على كافة المستويات، حيث أشار العديد من الأشخاص الذين لعبوا دورًا مباشرًا في الحرب في مقابلات المفتش الخاص لإعادة إعمار أفغانستان، إلى حجم الفساد الذي تغرق فيه البلاد.

وكانت قضية بنك كابل، أكبر بنك في أفغانستان، إحدى أكبر قضايا الفساد التي ارتبط بها كرزاي أيضًا، بعد أن انهار تحت وطأة قروض احتيالية بقيمة مليار دولار وهو مبلغ يتجاوز 8% من إجمالي الناتج الاقتصادي للبلاد. وكان أبرز من ارتبط اسمه بالفضيحة، شقيق الرئيس محمود كرزاي وعائلة فهيم خان، أمير الحرب الذي شغل آنذاك منصب النائب الأول لرئيس الدولة. 

وقال مسؤول بوزارة الخزانة الأميركية تم إخفاء اسمه بمقابلات "سيغار": "على مقياس 1 إلى 10، كان الرقم 20 هنا"، مضيفًا: "كان يحتوي على حيثيات يمكنك تضمينها في رواية تجسس وعلى علاقات مشبوهة بين الأشخاص الذين يمتلكون بنك كابل وأولئك الذين يديرون البلاد". 

وتتضمن الوثائق شهادة أحد مسؤولي وزارة الخزانة الأميركية والذي تم إخفاء اسمه، حيث صرّح بأنه التقى بخبير أميركي كان يعمل كمستشار للبنك المركزي الأفغاني، وقال: "أجرينا محادثات استمرت ساعة. سألته: هل تعتقد أن السجلات المالية للبنك سليمة؟، فأجاب: نعم".

وأضاف: "بعد 30 يومًا بالضبط، سقط هذا البيت المصنوع من الورق بأكمله. كانت هذه واحدة من أكبر حالات الفوضى في مسيرتي. انهار بنك بقيمة مليار دولار. وأقسم لي المستشار الأميركي أنه كان سليمًا من الناحية المالية". 

"الجنود الأشباح" وفشل التخطيط

إلى ما تقدّم، كان الحجم الحقيقي للقوات الأفغانية واحدة من أكبر قضايا الفساد التي بقيت تتردد على مدى سنوات.

فقد حذّر المستشار الخاص بإعادة إعمار أفغانستان طوال أكثر من عقد من الزمن أن قرابة 70% من قوات الأمن في إحدى الولايات كانوا وهميين، عدا عن تحقيقات صحفية وأمنية أشارت إلى أن قوة الجيش الأفغاني المقدرة بـ352 ألفًا، قد لا تتجاوز 289 ألفًا على أرض الواقع. وقد عُرفت هذه القضية بقضية "الجنود الأشباح". 

وكانت صفقة شراء 16 طائرة إيطالية الصنع من طراز G222، تجاوزت قيمتها نصف مليون دولار، أحد أشكال الفساد التي سلّط "سيغار" الأضواء عليه، حيث تحولت هذه الطائرات إلى مجرّد خردة مقابل 40 ألف دولار فقط. 

وأشارت عدة تحقيقات للمفتش الخاص لإعادة إعمار أفغانستان إلى فشل في التخطيط وإدارة المقرات والمباني. والفشل في تحديد الحاجة العملاتية للمبنى كلّف ميزانية الجيش 36 مليون دولار صُرفت على مبنى غير مستخدم. 

كما أنفق البنتاغون على معسكر آخر 3 ملايين و700 ألف دولار، لم يتم استخدامه منذ إنشائه لأنه يفتقر إلى قاعة طعام، بحسب هذه التحقيقات. 

"كنّا الأكثر فسادًا هناك"

يصف الجنرال برايان كوبس، الذي عمل قائدًا للشؤون المدنية في شرق أفغانستان، الهدر وسوء إدارة التمويل بقوله: "يمنحنا الكونغرس المال للإنفاق ويتوقع منا أن ننفقه كله. أصبح سلوكنا أننا لا نهتم بما نفعله بالمال طالما أننا ننفقه". 

ويصف مسؤول كبير تم إخفاء اسمه الفساد بقوله: "كانت أموالنا تعزز نفوذ الكثير من الأشخاص السيئين. كان هناك استياء عارم بين الشعب الأفغاني. وكنا الأكثر فسادًا هنا، لذلك لم تكن لدينا مصداقية بشأن قضية الفساد". 

من جهته، يحمّل كبير مستشاري وزارة الخارجية الأميركية السابق بارنيت روبن، مسؤولية الفساد للجانب الأميركي، ويقول: "كان الافتراض الأساسي أن الفساد مشكلة أفغانية ونحن الحل، لكن هناك عنصر واحد لا غنى عنه وهو المال، ونحن من كان يمتلك المال". 

ودعا ضابط البحرية السابق والمستشار في البيت الأبيض جيفري إيغرز، إلى المساءلة حول جدوى إنفاق قرابة ترليون دولار، فقال: "بعد مقتل أسامة بن لادن قلت إن أسامة ربما كان يضحك في قبره المائي بالنظر إلى ما أنفقناه على أفغانستان".  

"دولة فساد ورشوة"

في سبتمر/ أيلول 2014، انتخب أشرف غني خلفًا لكرزاي رئيسًا للبلاد، في انتخابات شابها العديد من الاتهامات بالفساد والتزوير. وبعد أشهر وبتدخل أميركي، قُسمت السلطة بين أشرف غني كرئيس للبلاد وعبدالله عبدالله كرئيس تنفيذي. إلّا أن حقبة غني ربطت بشبهات إثراء وتربّح للدائرة المحيطة به وعائلته. 

واستمرت مستويات الفساد بالتصاعد إلى حد جعل منظمة الشفافية الدولية تصنّف أفغانستان بين أكثر 20 دولة فسادًا في العالم. 

عمومًا، ليس أشرف غني وحده من كتب كتابًا عن كيفية بناء دولة فاشلة وترجم ما كتبه على أرض الواقع. فبعد عقدين من الاحتلال، كلّفا الولايات المتحدة ما يقارب ترليون دولار وقتل فيهما أكثر من 3624 جنديًا أميركيًا ومتحالفًا وأكثر من 170 ألف أفغاني بين مقاتل ومدني، كانت نتيجتها تأسيس دولة فساد ورشوة غاب فيها الأمن وزادت معدلات الفقر ومهدت الطريق لعودة طالبان للواجهة من جديد.


المزيد عن كواليس هذه المرحلة التي مهّدت لعودة طالبان، في الجزء الثاني من وثائقي "طالبان وتذكرة العودة"، في الفيديو المرفق. 

المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close