الإثنين 13 مايو / مايو 2024

لغز اختفاء المفكر العراقي عزيز السيد جاسم.. ما علاقة صدام حسين؟

لا تزال مؤلفات عزيز السيد جاسم الأثر الباقي منه، فهو الكاتب والمثقّف الجدلي الذي أراد أن ينظّر لتوجّه خاص فغُيّب ولم يبق له أثر
لا تزال مؤلفات عزيز السيد جاسم الأثر الباقي منه، فهو الكاتب والمثقّف الجدلي الذي أراد أن ينظّر لتوجّه خاص فغُيّب ولم يبق له أثر
لغز اختفاء المفكر العراقي عزيز السيد جاسم.. ما علاقة صدام حسين؟
لغز اختفاء المفكر العراقي عزيز السيد جاسم.. ما علاقة صدام حسين؟
السبت 30 سبتمبر 2023

شارك

في قلب العاصمة العراقية بغداد، يقلّب روّاد شارع المتنبّي كتب المفكر العراقي عزيز السيد جاسم، ويتداولون مؤلفاته، لكن لا أحد يعرف مصيره منذ 15 أبريل/ نيسان 1991.

ففي هذا التاريخ، كانت المرّة الأخيرة التي شوهد فيها عزيز السيد هاشم، قبل أن يُغيَّب عن المشهد، تاركًا خلفه الكثير من القلق والحيرة والأسئلة لدى المقرّبين منه وفي الأوساط الثقافية.

ورغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على اختفائه، لا تزال مؤلفات عزيز السيد جاسم الأثر الباقي منه، فهو الكاتب والمثقّف الجدلي الذي أراد أن ينظّر لتوجّه خاص في خليط غير معهود بين الماركسية والقومية والقيم الإسلامية.

لكنّ المشهد الدامي في تاريخ العراق الحديث لم يمنحه تلك الفرصة، فغُيّب ولم يُعرف له أثر إلا ما أبقاه من نتاجه الفكري، ليبقى كتاب اختفائه مفتوحًا لنهايات محتملة يُمكن أن تُختم في يوم ما.

من هو عزيز السيد جاسم؟

صُنّف عزيز السيد جاسم كاتبًا ومفكّرًا جدليًا، لكنّ حياته لم تكن سهلة، وفق ما يقوله المقرّبون منه، إذ يكشف شقيقه محسن الموسوي أنه دخل العمل السياسي في مرحلة مبكرة جدًا من حياته.

وتعود هذه المرحلة إلى عام 1956، يوم كان في عمر 15 سنة فقط، وقاد تظاهرات طلابية ضدّ العدوان الثلاثي على مصر، بحسب ما يكشف نجله علي عزيز.

أما دخوله إلى حزب البعث، فيعود إلى مرحلة انخفاض عدد المثقفين في صفوفه، بحسب ما يستذكر السكرتير الصحفي لصدام حسين هاتف الثلج، الذي يقول: "تواصلنا مع صدام من أجل استقدام جاسم إلى صفوفنا، فوافق على ذلك. وبالفعل ذُهل قادة الحزب بمهارة جاسم في الكتابة".

انخرط عزيز جاسم بعد ذلك في المؤسسات الإعلامية والثقافية في بغداد، وانضمّ إلى فريق جريدة "الثورة" الناطقة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، حتى اعتُبر بين أوساط المثقفين ورجالات البعث، أحد منظّري الحزب.

هذه الجدلية يوضحها الصحفي العراقي شامل عبد القادر، الذي يلفت إلى أنّ كتابات جاسم كانت "أقرب إلى روح اليسار"، مشيرًا إلى أنّ البعثيين كانوا بحاجة في ذلك الوقت إلى "مثقفٍ راقٍ لمواجهة الشيوعيين". ويلفت إلى أنّهم طبعوا منشورات وكتيّبات تخدم حزب البعث على غرار "الثوري واللاثوري" و"الانتهازية" و "الحركة العمالية والفلّاحين".

وبحسب علي عزيز، فإنّ من يقرأ تلك الكتيبات يجد أنّها "كُتبت مفصّلة بناء على شخصية صدام وما انتهي إليه بعد سنوات". ويقول: "كانت شبه نبوءة على تسلّق الثوري واللاثوري والذي تجسّد لاحقًا بالتيار الذي قاده صدام وطارق عزيز".

بدوره، يقول الثلج: "أراد عزيز جاسم كتابة توليفة بين الماركسية والبعثية والقومية والقيم الإسلامية، لكنّ البعثيين رفضوا ذلك".

اقتراب عزيز السيد جاسم "من النار"

كان اقتراب عزيز السيد جاسم من السلطة بداية سبعينيات القرن الماضي، أشبه باقترابه من النار التي أحرقت بداية عبد الخالق السامرائي رئيس مكتب الثقافة والإعلام القومي، الرجل الذي اقترب منه عزيز جاسم أكثر مما يريد النظام، حتى انتهى به المطاف إلى مصير مشابه، أو حتى أقسى من ذلك.

ويشرح الموسوي أنّ  علاقة عزيز جاسم بالسامرائي توطّدت لأسباب كثيرة، أولها التوافق في الرأي حيث "تحوّل فكر عبد الخالق بشكل كبير من فكر 63 إلى الفكر اللاحق".

من جهته، يشير الصحفي العراقي صادق التميمي إلى أنّ "لقاء جاسم بعبد الخالق السامرائي كان يهدف إلى تغيير الواقع، حيث بدأت السلطة بالاقتراب من الحرب مع إيران".

أنهى عزيز السيد جاسم آخر ما أراد قوله في مؤلفاته. لكن كتاب اختفائه لم يُكمل جزءه الأخير ليبقى مفتوحًا لنهايات محتملة يُمكن أن تُختم في يوم ما

لذلك، بدا حكم الإعدام الذي صدر بحق عبد الخالق السامرائي بمثابة محطة التهديد الأولى التي واجهت عزيز السيد جاسم بجريرة توافقه مع التيار اليساري لحزب البعث واصطدامه باليمين الذي يقوده طارق عزيز وصدام حسين.

وبالفعل، أبعِد عزيز السيد جاسم بعد ذلك، وأحيل إلى التقاعد، ليُدرَج بالنتيجة ضمن دائرة الخصوم، لكنّها خصومة لم يخترها هو مع صدام حسين، وفق ما يقول الصحفي العراقي شامل عبد القادر.

ويوضح عبد القادر أنّ صدام هو الذي اختار هذه الخصومة، بل هو الذي كان "خصمًا للجميع"، مذكّرًا بأنّه كان لديه برنامج لتولّي الرئاسة، ولم يكن يقبل أن يقف أحد في طريقه ومخططاته.

كتاب "علي بن أبي طالب.. سلطة الحق" وغضب صدام

مع إبعاده، تفرّغ عزيز السيد جاسم للكتابة، لكنّ ذلك لم يكن ابتعادًا عن المشاكل، على ما يبدو. فعندما ألّف كتابه "علي بن أبي طالب.. سلطة الحق"، لم يحصل بادئ ذي بدء على الإذن بطباعته.

يروي نجله علي عزيز أنّه قدّم المسودة لوزارة الثقافة وفق الأصول لمنحه الإذن بالطباعة. لكن الوزارة حولّت الكتاب إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية التي رفضت طباعته.

مع ذلك، سيجد الكتاب طريقه إلى الطباعة، بعد زيارة إلى العراق قام بها مدير دار الآداب للنشر اللبنانية الدكتور سهيل إدريس. سيستغلّ السيد جاسم الفرصة، فيطلب من شقيقه أن يوصل مسودة الكتاب إلى إدريس، وهكذا كان.

طُبِع الكتاب في بيروت، بل أكثر من ذلك، يتحدّث السكرتير الصحفي لصدام حسين هاتف الثلج عن رسالة إلى الرئاسة العراقية وصلت من مدير المخابرات مفادها أنّه "يوزّع في جنوب لبنان كالقرآن، وأنّه أصبح دستورًا هناك".

مقتطف من كتاب "علي بن أبي طالب.. سلطة الحق": "إنّ تجربة السلطة في زمن علي بن أبي طالب كانت تجربة إسلامية شفّافة. كان يبني سلطة عادلة قوامها الإدارة الذاتية للجماهير المؤمنة. كان يصنع سلطة متحرّرة من أدواتها التراتبية والقمعية المستعلية على المجتمع. وفي الوقت الذي كانت فيه المجتمعات العربية وغير العربية قد بدأت تستقبل أشكالًا متطوّرة من السلطة المهيمنة تتّسع باتساع الموارد الاقتصادية لتلك المجتمعات، وتتعاظم بتعاظم المسؤوليات السياسية والأمنية لها".

يقول الموسوي إنّ جاسم كتب عن الإمام علي "من منطلق أنّه لإدانة نظام، يجب أن تختار شخصية معروفة بعدلها وزهدها، لإسقاط واقعها على واقعك، فكان النموذج هو الإمام علي".

ولعلّ في الكتاب "شواهد كثيرة" على ذلك، كحديثه عن "جنوح بعض الكتاب والمؤرخين إلى تفصيل الخصائص الشخصية والعائلية للحاكم"، حيث "تلعب الأهواء دورًا كبيرًا في المبالغة والتفخيم وإبراز الأقوال الصغيرة كمآثر حكمية نادرة، وإبراز الأعمال الصغيرة كمنائر مجيدة في الإنجاز".

سجن عزيز ومحاولة انتحاره

فتح كتاب "علي بن أبي طالب.. سلطة الحق" الباب أمام مرحلة صعبة أخرى في حياة عزيز السيد جاسم، حيث يكشف المقرّبون منه أنّه دخل السجن، بمجرّد أن علم صدام حسين بأمر الكتاب.

يقول السكرتير الصحفي لصدام إنّ الأخير أمر بسحب الكتاب من الأسواق، وكذلك كتابة ثلاث مؤلفات عن الخلفاء من أبي بكر وعمر وعثمان.

لكن عند وصول هذه الأوامر، اختار عزيز السيد جاسم الانتحار، بحسب ما يقول نجله، فتناول أدوية السكري والضغط جرعة واحدة، وهكذا اُغمي عليه ونُقل إلى المستشفى العسكري.

أما شقيقه فيوضح أنّه جرى استدعاؤه للقاء معاون الأمن السياسي أبو فرح خيري جلميران حيث وصلت معلومات تُفيد بأنّ عزيز جاسم قد أفاق من الإغماء وأنّه خضع للإجراءات الطبية اللازمة.

ويقول التميمي إنّ الانطباع الذي ساد وقتها، كان أنّ النظام اتخذ قرار تصفية عزيز جاسم حتى وإن ألّف الكتب التي طلبها صدام.

ومع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، دفع عزيز ضريبة خروجه من السجن، لكن مع ملف أمني بقي بين يدي السلطات ليكون خيطًا آخر يُمكن أن يجرّه إلى مصيره المجهول.

الحراك الشعبي جنوب العراق 1991

يقول الموسوي إنّه ليل انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، قال له جاسم إنّ صدام سيدخل حربًا أخرى، لأنّه اعتبر نفسه منتصرًا، "وهذا دليل على وعي عزيز التامّ بشخصية صدام"، على حد وصفه.

ويروي علي عزيز أنّه في بداية حرب الخليج عام 1990، انتقلت عائلة عزيز جاسم إلى منزلها في كربلاء. وحين انتهت الحرب، عادت العائلة إلى بغداد.

لا تزال مؤلفات عزيز السيد جاسم الأثر الباقي منه، فهو الكاتب والمثقّف الجدلي الذي أراد أن ينظّر لتوجّه خاص في خليط غير معهود بين الماركسية والقومية والقيم الإسلامية. لكنّ المشهد الدامي في تاريخ العراق الحديث لم يمنحه تلك الفرصة، فغُيّب ولم يُعرف له أثر إلا ما أبقاه من نتاجه الفكري

لكن وجوده في كربلاء تزامن مع اندلاع الحراك الشعبي جنوب العراق عام 1991، حيث أشارت بعض التسريبات إلى أنّه التقى بعض قيادات الحراك.

ولعلّ هذا الامر كان سببًا آخر لأزمة الرجل مع النظام، إذ إنّه التزم الصمت ولم يبلغ الجهات الأمنية باللقاءات التي أجراها، ما دفع النظام ليعتبر ذلك بمثابة "تواطؤ"، بحسب ما ينقل نجله.

اختفاء عزيز السيد جاسم

في 15 أبريل/ نيسان 1991، وأمام مكتب له في شارع السعدون وسط بغداد، كانت المرة الأخيرة التي شوهد فيها عزيز السيد هاشم، قبل أن يختفي أثره.

شهد نجله، الذي كان في العاشرة من عمره آنذاك، على اقتياد والده، لحظة يتذكّرها جيّدًا، ويقول إنّ جهة رسمية هي التي أوقفت عزيز السيد جاسم.

لكن أثره سيختفي بعد ذلك، من دون أن يُعرَف شيء عنه، لا عن التهمة التي اختفى بسببها، ولا عن مصيره، ومن دون أن يُكشَف النقاب عن أيّ دليل يقود إليه.

تتعدّد الروايات التي يتناقلها المقرّبون منه، بينها ما يتحدّث عن مذكّرة باسم والدة عزيز السيد جاسم إلى الرئيس عبر البريد، وعن رسالة وقّعها صدام حسين، كُتب عليها "عزيز عزيزٌ علينا".

ووسط القلق والحيرة، أطلِقت حملة واسعة للمطالبة بكشف مصيره، وللتوعية بقضيته، ورُفِعت دعوى قضائية في العراق، لكنّها بقيت بمجملها من دون نتيجة.


فما هي قصة اختفاء عزيز السيد جاسم؟ وما هي السيناريوهات المحتملة لمصير الرجل؟ وما هي الجهود التي بذلها ذووه في هذا الصدد؟ وهل يُكتَب الجزء الأخير من كتاب اختفائه يومًا ما؟ الإجابات وأكثر تجدونها في الحلقة المرفقة من "مختفون".
المصادر:
العربي

شارك

Close