الخميس 2 مايو / مايو 2024

مطاردة استمرّت عامين.. القصة الكاملة لعملية تعقّب القرشي حتى مقتله

مطاردة استمرّت عامين.. القصة الكاملة لعملية تعقّب القرشي حتى مقتله

Changed

تناولت مراسلة "العربي" في واشنطن ريما أبو حمدية اللحظات الأخيرة لزعيم "تنظيم الدولة" وتفاصيل العملية العسكرية الأميركية ضدّه (الصورة: غيتي)
خصّص محلّلو وكالة المخابرات المركزية الأميركية مئات من ساعات العمل على القضية، كما ضاعف محلّلو المخابرات الآخرون جهودهم خلال مراقبة منزل القرشي.

كشفت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أن عملية رصد زعيم "تنظيم الدولة" أبو ابراهيم القرشي بدأت منذ الخريف الماضي، وأن إعاقته الجسدية أسهمت في العثور عليه في المنزل الذي يقطنه في أطمة شمالي غرب سوريا.

ففي الخريف الماضي، حلّقت طائرة تجسّس أميركية بدون طيار فوق منزل على حافة بستان زيتون شمالي غرب سوريا، وكانت كاميرتها تُحاول إلقاء نظرة على رجل ملتحٍ قيل إنه يعيش في الداخل.

الرجل، الذي كان يُطلق عليه أحيانًا لقب "الأستاذ"، فقد ساقه في الحرب ونادرًا ما يغادر شقته في الطابق الثالث. لذلك ثبّتت الدرون عدستها على شرفة سطح المبنى وانتظرت.

وانضمّت عناصر استخباراتية أخرى مزوّدة بكاميرات وأجهزة استشعار عن بعد إلى عملية الرصد، فوق المنزل وحوله، وفي النهاية حصلوا على ما يريدون.

وفي بعض الأيام، كلما سمحت الأحوال الجوية بذلك، تمكّنت الكاميرات من التقاط صور واضحة لرجل يعرج وهو في طريقه للشرفة حاملًا سجادة لأداء الصلاة. وفي أوقات أخرى، كان يظهر على سطح المنزل. ومن حين لآخر، كان يخرج في نزهة قصيرة أو يقف فقط عند الباب لاستنشاق بعض الهواء النقي.

وكانت إعاقته الجسدية أمرًا بارزًا، حيث فقد ساقه اليمنى، وتطابق بدقة وصف الرجل الذي كان موضوع الرصد المكثّف: أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم "تنظيم الدولة". ومع مزيد من المراقبة، أكد محللو المخابرات الأميركية هويته.

مطاردة لعامين

وبعد مطاردة استمرّت عامين، رصد المخبرون على الأرض القرشي. ثمّ أكدت العدسة التلسكوبية للطائرة من دون طيار هذه المعلومة.

غير أن سؤالين شغلا بال المسؤولين الأميركيين المشاركين في عملية البحث: الأول يتمثّل في كيفية قتله أو القبض عليه مع تقليل المخاطر على القوات الأميركية وأكثر من 12 امرأة وطفل يعيشون في المبنى نفسه، والثاني إما استهدافه سريعًا أو الانتظار لجمع المزيد من المعلومات حول شبكة القرشي النائية من الخلايا السرية.

واعتبر مسؤولون استخباراتيون حاليون وسابقون في الولايات المتحدة والشرق الأوسط الذين وصفوا تفاصيل العملية التي أنهت حياة القرشي، في أحاديث مع واشنطن بوست، شريطة عدم الكشف عن هويتهم، أن "الانتظار، الذي امتد في النهاية لأشهر عدة، أثبت أنه يستحقّ العناء".

وقال مسؤول استخباراتي سابق رفيع المستوى مطلع على الأحداث للصحيفة: "كان هناك سعاة واتصالات بين الخلايا. لقد استغلّوها لجمع أكبر قدر ممكن من البيانات. كان عليهم معرفة مع من يتحدّث".

إعادة تأسيس "الخلافة"

من خلال المراقبة والرصد، تبيّن للأميركيين أن القرشي كان يعمل على إعادة تأسيس "الخلافة الإسلامية المعلنة ذاتيًا"، والتي سيطرت ذات يوم على منطقة بحجم إنكلترا.

ورأى مسؤولون أن "مشاركته المكثّفة في التخطيط للعمليات، جعلته بهذه الخطورة. لكنها بمرور الوقت، جعلته أيضًا أكثر ضعفًا".

وقال مسؤول رفيع في إدارة بايدن: كان القرشي قائدًا إلى حد كبير، كان يُعرف بشكل غير رسمي باسم الحاج عبد الله، أو لدى تلاميذه بالبروفيسور عبد الله، أو ببساطة الأستاذ، بسبب شهاداته الأكاديمية ودوره السابق باعتباره أحد المفسّرين الرسميين للشريعة الإسلامية في التنظيم".

استئجار المنزل

وكشفت الوثائق أن رجلًا يعتقد المسؤولون الأميركيون أنه أبو أحمد الحلبي، وهو أحد قادة التنظيم، هو من استأجر مسكن القرشي في أطمة في مارس/ آذار الماضي. وبعد أسبوعين من انتقاله إلى المنزل، استأجر القرشي الطابق العلوي من المبنى، قبل أن ينتقل إلى شقة متواضعة في الطابق الثالث تطل على الحقول وأشجار الزيتون.

وقال مسؤولون أميركيون إن القرشي تبنّى بروتوكولات أمنية صارمة للتهرّب من ملاحقيه. فبالإضافة إلى حظر الهواتف المحمولة واتصالات الإنترنت، اعتمد على السعاة باعتبارهم وسيلة آمنة لتبادل المعلومات والرسائل.

لكن هذه البروتوكولات وزيارات الغرباء إلى أطمة، جذبت الشكوك حول الوافد الجديد الغامض وزوّاره.

ساق مبتورة وأجهزة استشعار وكاميرات

وقال المسؤولون إن ساق القرشي المبتورة خلال قيامه بنزهات قصيرة عبر بساتين الزيتون، لفتت أنظار سكان المنطقة إليه، ووصل الأمر إلى المخبرين الذين يعملون لصالح "قوات سوريا الديمقراطية"، لتبدأ المراقبة المكثّفة بعد ذلك مباشرة.

وراقب المخبرون وصول رجال مسلّحين للقاء القرشي في شقته العلوية وخروجهم. بينما وسّعت الاستخبارات الأميركية عملية المراقبة لتشمل بعض الكاميرات وأجهزة الاستشعار الأكثر تطورًا، ومعظمها موجودة على طائرات بدون طيار تُديرها وزارة الدفاع.

وخلال الأسابيع التالية، خصّص محلّلو وكالة المخابرات المركزية مئات من ساعات العمل على القضية، كما زادت جهود محلّلي المخابرات الآخرين الذين ظلوا يراقبون المنزل والحي.

وقال مسؤول عسكري رفيع المستوى: "لقد عملنا بشكل مكثّف مع مجتمع المخابرات لتطوير فهم عميق للأشخاص الموجودين في المبنى ونمط حياة جميع السكان الموجودين هناك".

بدورهم، أفاد المسؤولون بأن هذا الجهد لم يؤكد فقط هوية القرشي في نهاية المطاف، ولكنه أثار أيضًا جدلًا مؤلمًا حول التكتيكات: ما إذا كان سيتمّ شن غارة جوية مباشرة تخاطر بقتل الأبرياء، أو إرسال قوات كوماندوز أميركية إلى المنطقة المضطربة التي تسيطر عليها مجموعة منوعة من الجماعات المسلحة التي تضمّ مسلحين مرتبطين بالقاعدة.

تدريبات مكثّفة

وبحلول أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، بدأت القوات الخاصة الأميركية بالتدرّب على شنّ غارة على المنزل، والتي اعتقد المخططون العسكريون أنها تحتوي على مفخّخات مصمّمة لوقف المهاجمين.

وقال مسؤولان عسكريان كبيران شاركا عن كثب في العملية إن تلك الاستعدادات تضمّنت تدريبات منتظمة مع النماذج، بما في ذلك نموذج بالحجم الطبيعي للمسكن.

وقال مسؤول عسكري إنه جرى استبعاد فكرة شنّ غارة جوية على المبنى، لأنه يضمّ عددًا كبيرًا من المدنيين، بما في ذلك أسرة وأطفال في الطابق الأول.

وأضاف المسؤول أن شنّ غارة طويلة المدى بطائرة هليكوبتر كانت خطة أكثر خطورة للقوات الأميركية، لكن الهدف من المهمة كان القبض على زعيم التنظيم، وجمع المعلومات الاستخباراتية الممكنة، وبالطبع تجنّب أي ضرر مدني غير ضروري".

وقال مسؤولون إن الرئيس الأميركي جو بايدن اجتمع في 20 ديسمبر/ كانون الأول مع فريقه للأمن القومي للموافقة رسميًا على العملية ضد القرشي. وسأل الرئيس عن الخسائر في صفوف المدنيين، وعمّا إذا كان المنزل قد ينهار "إذا قام الزعيم الإرهابي بتفجير قنبلة"، مما قد يؤدي إلى مقتل العائلات الموجودة في المبنى.

ودرس المهندسون العسكريون الهيكل، وخلصوا إلى أن الأمر مستبعد.

عدم الاستعجال

وأوضح عدد من المسؤولين أنه لا يبدو أن هناك ما يدعو للاستعجال في تنفيذ المداهمة. فبالإضافة للحاجة إلى التخطيط والتدريب، كانت هناك اعتبارات عملية، مثل الطقس والليلة القمرية، فالليلة الخالية من القمر هي الخيار المفضّل لعمليات الكوماندوز.

في غضون ذلك، سمحت المراقبة المستمرة لمسؤولي المخابرات بتوسيع معرفتهم بشبكة القرشي السرية، والتي شملت عشرات الخلايا المنتشرة في جميع أنحاء سوريا والعراق.

وأوضح مسؤول استخباراتي سابق رفيع المستوى أنه نتيجة للمراقبة المكثّفة، كان المسؤولون الأميركيون واثقين من أنهم يستطيعون "اكتشاف أي محاولة لمغادرة" المنزل. ومثل هذه المحاولة ستوفّر فرصة لشن غارة جوية بعيدًا عن المبنى وقاطنيه المدنيين.

وقال المسؤول إن الأسابيع التي تلت ذلك أدت إلى ظهور كم هائل من المعلومات الاستخباراتية، حيث تمّ تعقّب سعاة ومراقبتهم في ما بعد أثناء لقائهم بجهات اتصال في أجزاء أخرى من العراق وسوريا. وزاد تدفّق السعاة إلى منزل القرشي في أطمة بعد الهجوم المكثّف الذي شنّه مقاتلو التنظيم الشهر الماضي على سجن الحسكة في شمال شرق سوريا الذي يسيطر عليه الأكراد.

وأكد مسؤولون أميركيون أن القرشي متورط بشدة في التخطيط للهجوم على السجن.

ظروف العملية مناسبة

بحلول الأول من فبراير/ شباط الحالي، قرّر العسكريون الأميركيون أن ظروف غارة الكوماندوز كانت شبه مثالية. وفي اجتماع المكتب البيضاوي، تمّ إطلاع بايدن على الخطط النهائية، وأعطى موافقته. وفي اليوم التالي عند الساعة الخامسة مساء بتوقيت واشنطن، جرى استدعاء الرئيس إلى غرفة العمليات بالبيت الأبيض لمراقبة الغارة من خلال اتصال فيديو بالبنتاغون.

متذكرًا المزاج السائد في الغرفة، قال مسؤول كبير في الإدارة الأميركية: "كان الوضع هادئًا للغاية ومتوترًا. لم يكن هناك الكثير من الكلام".

وأضاف المسؤولون أن ما ساهم في التوتر هو معرفة أن القوات الأميركية ستعمل في منطقة معادية تهيمن عليها الجماعات المتطرفة. كما كانت القوات الخاصة تسافر داخل وخارج المجال الجوي الذي يسيطر عليه الجيش الروسي. وتمّ اتخاذ قرار بالامتناع عن تنبيه موسكو في وقت مبكر، والاعتماد بدلًا من ذلك على تفادي التضارب لنزع فتيل أي مشاكل.

مرحلة التنفيذ

وبحلول الساعة الواحدة بعد منتصف الليل بالتوقيت المحلي السوري، حلّقت طائرات هليكوبتر تحمل أكثر من عشرين فردًا من قوة النخبة فوق المنزل في أطمة. وبينما كان فريق "دلتا" يستعد للنزول على الحبال، جابت مروحيات "أباتشي" وطائرات مقاتلة وطائرات "ريبر" المسلحة من دون طيار السماء لمراقبة المشاكل.

أيقظ دوي المروحيات الجيران، وتهافت الناس من منازلهم لمشاهدة ما يحصل. وقال البعض إنهم سمعوا صوتًا يصرخ بأوامر عربية عبر مكبّر صوت، "من أراد أن يحافظ على روحه، فليخرج".

خرج رجال الكوماندوز يرتدون السترات الواقية من الرصاص من إحدى المروحيات، وانطلقوا بالحبال على المنزل. مستخدمين بوقًا للإعلان عن أنفسهم، جمعوا العائلة في الطابق الأول -رجل وامرأة وعدة أطفال- واقتادوهم بعيدًا.

لم يستسلم القرشي ولم يسمح لأسرته بالهروب. وبحسب الروايات الرسمية، التي يدعمها الشهود والمحللون الذين راجعوا صورًا لداخل المبنى، فإن القرشي أو رفاقه قاموا بزرع المسكن بالمتفجّرات لضمان وفاته. ولم يتّضح بعد من فجّر القنبلة.

ورجّح المسؤولون العسكريون أن القرشي هو مَن فعل ذلك بنفسه، لكنهم لم يستبعدوا احتمال أن يكون شخصًا آخر- ربما إحدى زوجاته. ولاحقًا، اعتُبر الانفجار بأنه أقوى بكثير من السترة الناسفة التي استخدمها سلفه أبو بكر البغدادي للانتحار قبل ثلاث سنوات.

كانت الأسرة الموجودة في الطابق الأرضي قد غادرت لتوها عندما أضاء انفجار في السماء، مع دوي يمكن سماعه على بعد أميال. تسبّبت قوة الانفجار بتطاير العديد من الجدران وانتشار الجثث والأشلاء على الأرض. ثمّ عمّ الصمت لدقائق.

وقال مسؤولون عسكريون إنه بسبب القلق من احتمال وجود المزيد من الأفخاخ المتفجّرة، أرسل فريق الكوماندوز قوات أخرى -مجسًا آليًا أو طائرة صغيرة بدون طيار- لمسح بقايا الشقة.

وأثناء التفتيش، تعرّضت قوة الكوماندوز لإطلاق النار من قبل قائد في التنظيم موجود في الطابق الثاني، ثم من قبل زوجته.

وقال مسؤولون إن كلاهما قُتلا في تبادل لإطلاق النار، وأن القوات الأميركية أبعدت عددًا من الأطفال وسلّمتهم إلى أسرة أخرى قريبة.

وبعد ساعتين من بدء المهمة، انتهى الأمر. وبينما كان بعض أعضاء فريق "دلتا" يجمعون أوراقًا ومعلومات أخرى ذات قيمة محتملة من داخل المنزل، أخذ آخرون بصمات أصابع من رفات القرشي وحصلوا على عينة بيولوجية لاختبار الحمض النووي. وتُركت الجثة هناك وسط أنقاض المنزل الواقع على حافة بستان الزيتون.

وقبل الساعة السابعة صباحًا بقليل بتوقيت واشنطن، أي بعد حوالي 12 ساعة من انتهاء الغارة، اكتملت الاختبارات وتأكدت هوية زعيم "تنظيم الدولة". وأعدّ مسؤولو البيت الأبيض إعلانًا رسميًا قدّمه بايدن على الهواء مباشرة.

وقال بايدن: "هذا الزعيم الإرهابي الرهيب لم يعد موجودًا".

المصادر:
العربي - ترجمات

شارك القصة

تابع القراءة
Close