الإثنين 29 أبريل / أبريل 2024

استثناء وحيد.. الديمقراطية "تجتاح" العالم وتصطدم بـ"الاستعصاء العربي"

استثناء وحيد.. الديمقراطية "تجتاح" العالم وتصطدم بـ"الاستعصاء العربي"

Changed

ناقشت حلقة "قراءة ثانية" لهذا الأسبوع أسباب فشل التجارب الديمقراطية في الوطن العربي، وتداعياته من خلال تجارب بعض الدول العربية (الصورة: غيتي)
رغم إعلان بعض الدول العربية تحولها نحو الديمقراطية في أواخر القرن العشرين، إلا أنّ تجربة واحدة لم يُكتَب لها النجاح، الأمر الذي تكرر بعد ثورات الربيع العربي.

لا يمكن تعريف الديمقراطية تعريفًا واحدًا يختزل الفكرة وأبعادها الفلسفية والسياسية والاجتماعية والثقافية، فضلًا عن تاريخ ظهورها وتطوّرها منذ الإغريق وحتى العصر الحديث.

إلا أنّ دلالات استخدام المفهوم السياسي الأكثر رواجًا وانتشارًا في القرنين الماضيين تشير إلى نظام حكم سياسي تتطلّع إليه البلدان والمجتمعات التي ترزح تحت نير حكم الاستبداد والطغيان بوصفه البديل الوحيد المطروح عالميًا لتأسيس نظام سياسي يحمي الحريات والحقوق ويقوم على دولة المؤسسات المدنية المنتخبة وحكم القانون والشفافية والمساءلة.

لكن، إذا نظرنا إلى الخارطة اليوم، سنجد أنّ حكم الديمقراطية يغطّي كلّ مناطق العالم باستثناء العالم العربي، فكلّ دول أوروبا وأميركا الشمالية هي دول ديمقراطية، و91% من دول أميركا اللاتينية، و67% من دول أوروبا الشرقية، و40% من دول القارة الإفريقية جميعها تُحكَم وفق قوانين وتشريعات مدنية ديمقراطية.

وحين ضربت ثورات ما بات يُعرَف بالربيع العربي العالم العربي، بدا وكأنّ الاستعصاء العربي على الديمقراطية قد كُسِر، وأنّ العرب كغيرهم من شعوب العالم سيتمتّعون أخيرًا بفضائل الديمقراطية ودولة العدالة والمواطنة.

غير أنّ تلك كانت قراءة متعجّلة، فالاستعصاء على الديمقراطية كان أقوى من ثورات ورغبات الشعوب، وها نحن اليوم في ظلّ ما تعيشه دول الربيع العربي من ثورات مضادة، نعود إلى المربع الأول، مربع أنّ العرب هم فعلًا الاستثناء الذي يمضي ضدّ التاريخ.

فهل هذه هي الحقيقة المرّة التي علينا مواجهتها، أم أنّ ثمّة مبالغة في الكلام عن الاستثناء العربي الذي يستعصي على الكسر، وأنّ قراءة ثانية يجب أن تُقدَّم اليوم؟

موجات ثلاث من الديمقراطية

موجات ثلاث شهدها العالم في التحول نحو الديمقراطية كما يشير صامويل هانتجتون في كتابه "الموجة الثالثة"، حيث بدأت الموجة الأولى نظريًا مع الثورتين الفرنسية والأميركية، إلا أنّ الظهور الفعلي للمؤسسات الديمقراطية كان في القرن التاسع عشر.

كانت بدايات الديمقراطية المعاصرة في إنكلترا والولايات المتحدة قبل أن تلحق بهما سويسرا وفرنسا وعدّة دويلات أوروبية، وقبيل الحرب العالمية الأولى عرفت إيطاليا والأرجنتين نظمًا ديمقراطية، وفي أعقاب تلك الحرب تحوّلت دول عدّة في أوروبا إلى الديمقراطية.

ومع الحرب العالمية الثانية، بدأت الموجة الثانية، وأدّى احتلال الحلفاء إلى دفع عملية إنشاء مؤسسات ديمقراطية في ألمانيا الغربية وإيطاليا والنمسا واليابان وكوريا، بينما أطفأ الضغط السوفييتي شعلة الديمقراطية الوليدة في كل من تشيكوسلوفاكيا والمجر.

وفي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، تحوّلت كلّ من تركيا واليونان باتجاه الديمقراطية، وفي أميركا اللاتينية، تحولت كل من البرازيل وكوستا ريكا إلى الديمقراطية في أواخر الأربعينيات.

وفي أربع دول أخرى في أميركا اللايتينية هي الأرجنتين وكولومبيا والبيرو وفنزويلا، أدّت الانتخابات إلى قيام حكومات منتخبة شعبيًا في عامي 1945 و1946. ولكنّ هذه الدول الأربع لم تدم فيها الممارسات الديمقراطية، حيث حلّت الديكتاتورية محلها في أوائل الخمسينيات، وضربت موجة من الانقلابات العسكرية عدّة دول في أميركا اللاتينية في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين.

وفي 25 أبريل/ نيسان 1974، شهدت البرتغال انقلابًا نفّذه ضباط شبّان وأنهوا به حكم الديكتاتور مارسيلو كايتانو وسط تأييد شعبي وجماهيري. وكان هذا الانقلاب بداية الموجة الثالثة من الديمقراطية، من دون قصد ممّن نفّذوه.

بين موت الديكتاتورية ومولد الديمقراطية

لم يكن موت الديكتاتورية نذيرًا بمولد الديمقراطية بالضرورة، لكنّه أطلق قوى شعبية واجتماعية وسياسية عديدة من عقالها بعد أن كانت مقيّدة في ظلّ الديكتاتورية. وفي السنوات الـ15 التي تلت نهاية الديكتاتورية في البرتغال، حلّت النظم الديمقراطية محلّ النظم الشمولية والتسلطية في حوالي 30 دولة في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية.

وفي دول أخرى، حصلت الحركات الداعية إلى الديمقراطية على أرضية جديدة وشرعية في الوجود، ورغم وجود بعض المقاومة والانتكاسات والموجات المضادة، إلا أنّ التحرك باتجاه الديمقراطية تحوّل إلى مدّ عالميّ وحقّق انتصارًا تلو الآخر.

وفي الألفية الثالثة، ووفق المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، يحكم النظام الديمقراطي دول أميركا الشمالية بنسبة 100%، تليها أوروبا بنسبة 93%، وأميركا اللاتينية والكاريبي بنسبة 86%، وآسيا والمحيط الهادي بنسبة 50%، وإفريقيا بنسبة 41%، فيما لم تنجح دولة عربية واحدة في الانتقال إلى النظام الديمقراطي، وهو ما أطلق عليه بعض الباحثين المختصّين بدراسات التحول الديمقراطي الاستثناء العربي.

"استثناء عصيّ على الديمقراطية"

هكذا إذًا، اجتاحت الديمقراطية قارات العالم السبع، وصارت النظام السياسي الأكثر حضورًا وانتصارًا وانتشارًا بالعدوى.

وحدهم العرب مثّلوا استثناء عصيًا على الديمقراطية، ورغم إعلان بعض الدول العربية تحولها نحو الديمقراطية في الربع الأخير من القرن العشرين، إلا أنّ تجربة واحدة لم يُكتَب لها النجاح، الأمر الذي تكرّر بشكل أكثر غرابة وقسوة في بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، وذلك بعد ثورات الربيع العربي.

ويُرجِع بعض الباحثين هذا الاستعصاء الديمقراطي إلى الثقافة العربية، والتي تحول دون انتقال العرب إلى الديمقراطية لأسباب عدّة: دينية تتعلق بالتراث السياسي الإسلامي وأفكاره، اقتصادية تتعلق بالفقر وأضراره، تاريخية تتعلق بالاستعمار وآثاره، واجتماعية تتعلق بتعدد الطوائف والمذاهب والإثنيات وما يترتب عليها من صراعات ونزاعات.

هل تتحمّل الثقافة السائدة المسؤولية؟

في كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"، يرى د. عزمي بشارة أنّه لا يمكن تحميل الثقافة السائدة مسؤولية مساندة الديمقراطية أو عرقلتها، ويختلف مع أصحاب هذه الوجهة في التحليل لخمسة أسباب:

أولاً، لا يوجد شعب بأكمله يحمل ثقافة سياسية متجانسية.

ثانيًا، من الصعب إثبات وجود علاقة سببية واضحة بين الثقافة ونظام الحكم، وما يجري عادة هو ربط نظام حكم قائم بثقافة قائمة بأدوات تأويلية في طبيعتها وليس بروابط سببية.

ثالثًا، يضمر هذا التفسير من دون أن يفصح مشاركة للشعب في السياسة، وغالبًا ما أقصي الشعب عن السياسة أصلًا.

رابعًا، القيم والعادات الاجتماعية تنظّم علاقات الناس ضمن الجماعة غالبًا وأحيانًا خارجها. أما طبيعة علاقة الفرد والجماعة بالدولة الحديثة، فغالبًا ما تفرضها الدولة وتحدّد قواعدها إذا حدث التلاقي المباشر بينهما، مع تسجيل تحفّظ مفاده أنّه في حالة ضعف الدولة الحديثة وقوة مؤسسات المجتمع، فإنّ مؤسسات الدولة تتأثّر بها بشدّة.

أخيرًا، لا يمكن فهم تأثير قيم وأعراف اجتماعية تُعَدّ عناصر مكوّنة للثقافة السياسية في السلوك السياسي، إلا من خلال تفاعلها مع الظروف والمصالح ومع مستوى الوعي القائم أيضًا.

وينبّه بشارة إلى أنّ نقد الثقافة أو الثقافات السائدة مهمّ، ولا سيما في سياقات الصراعات على العقلانية في مقابل الغيبية في غير شؤون الدين، وعلى مركزية القيم الأخلاقية في مواجهة العدمية. ولا مناص من خوض هذه المعارك، وفق بشارة، لكنّ تغيير الثقافة جذريًا ليس شرطًا، يجب على المجتمعات العربية انتظار تحقّقه كي تحظى بحقوق المواطنة في دولة ديمقراطية.

ما أسباب فشل الانتقال الديمقراطي؟

يرى الباحث والأكاديمي المصري عبد الفتاح ماضي أنّ ثقافة النخب وسلوكياتها أثناء إدارة المراحل الانتقالية كانت سببًا أساسيًا من أسباب فشل الانتقال الديمقراطي، وفتح المجال أمام خصوم الثورات العربية للتدخل وإجهاض هذه المسارات.

ويشير ماضي في حديث إلى "العربي"، إلى أنّ هذه المسارات لم تُجهَض بسبب إخفاقات النخب فقط، أو الأخطاء التي ارتُكِبت سواء من النخب الحاكمة أو النخب المعارضة التي تولت المسؤولية أو شاركت في إدارة المرحلة الانتقالية.

ويوضح أنّ معظم الثورات والانتفاضات العربية تمّ إجهاضها بعمل عنيف، من خلال تدخل القوى المسلحة والاحتكام إليها، لافتًا إلى أنّه كانت هناك مناقشات جيدة في بعض الدول، كمصر وتونس وغيرها، أثناء وضع الدساتير.

ويشدّد على أهمية السياقات العامة التي لعبت النخب فيها أدوارًا مختلفة، لافتًا إلى أخطاء أخرى ارتكبتها هذه النخب، كعدم فهمها لطبيعة الصراع في المنطقة، وترك الساحة لقوى معادية للحرية والديمقراطية، وعدم بناء مؤسسات سياسية، والاكتفاء بمطالبة إعادة البناء من دون المشاركة في إدارة العملية الانتقالية.

بين الاستبداد والتحديث

من جهته، يؤكد السياسي التونسي والقيادي السابق في حركة النهضة رفيق عبد السلام أنّ الثقافة العربية الإسلامية ليست أقلّ شأنًا واعترافًا بالقيم الإسلامية من غيرها من الثقافات الأخرى.

ويشير في حديث إلى "العربي"، إلى أنّ الخلل يعود إلى أسباب أخرى، من بينها المعطيات السياسية والمعطيات الاقتصادي، لافتًا إلى أنّ التفسيرات الثقافوية هي تفسيرات قاصرة اختزالية ولا تصمد أمام معطيات الواقع العربي.

ويشدّد على أنّ الكثير من مظاهر الاستبداد تتغلّف بالتحديث، موضحًا أنّ الكثير من الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي ليست تقليدية ولا علاقة لها بالقبيلة، ولكنها استبدادية وتسلطية. ويرى أنّ الاستبداد له وجوه متعددة، بعضه يأخذ الطابع التقليدي، وبعضها يتغلق بالقاموس الحداثي.

ويرى أنّ تونس تعيش مخاضًا عسيرًا، ولا يمكن قراءة المشهد التونسي نجاحًا أو فشلًا من اللحظة الراهنة، موضحًا أنّ تونس تعيش منذ عام 2011 حالة سياسية متقلبة، من المدّ والجزر، "وهذا هو مسار الثورات".

ويشدّد على أنّ الثورة التونسية مرّت بصعوبات وتحديات، ويقرّ بوجود انتكاسة الآن للمسار الديمقراطي في تونس، لكنه يعرب عن اعتقاده بأن هذه الانتكاسة "لن تعمّر طويلًا".

المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close