الإثنين 29 أبريل / أبريل 2024

اقتحام المصارف في لبنان.. من يتحمّل مسؤولية الـ"تفليسة" الجماعية؟

اقتحام المصارف في لبنان.. من يتحمّل مسؤولية الـ"تفليسة" الجماعية؟

Changed

حلقة من "عين المكان" تسلط الضوء على ظاهرة اقتحامات المصارف في لبنان وكيفية تعاطي السلطات معها (الصورة: غيتي)
تحوّل القطاع المصرفي في لبنان من فخر الاقتصاد إلى عنوان للأزمة الاقتصادية، حيث فرضت المصارف قيودًا مشدّدة على السحب بالدولار، وجمّدت الودائع.

كان القطاع المصرفي يُعد ركيزة الاقتصاد اللبناني، وجاذبًا للودائع ورؤوس الأموال من المستثمرين العرب والمغتربين اللبنانيين. فبلغت مجموع الودائع في المصارف حتى عام 2019، أكثر من 150 مليار دولار، وفقًا لتقديرات رسمية.

لكن هذه الحال تغيّرت، فتحوّل القطاع المصرفي من كونه فخر الاقتصاد إلى عنوان للأزمة الاقتصادية، حيث فرضت المصارف قيودًا مشدّدة على السحب بالدولار، وجمّدت الودائع، ومنعت التحويلات المالية إلى الخارج.

إزاء ذلك، شهدت المصارف اللبنانية حالات اقتحام متكرّرة نقلتها وسائل الإعلام مباشرة على الهواء، فيما خرجت الحكومة اللبنانية عن صمتها، في بيان، بدا كأنه كُتب على عجل. وتقاذفت القوى السياسية المنقسمة الاتهامات، محمّلة الحكومة مسؤولية التفريط في مدخرات الناس، وتجاهل معاناتهم، وسط تحذير أمني من أجندات لضرب السلم الأهلي.

حقوق المودعين ونظرية المؤامرة

تقول سالي حافظ، التي باتت معروفة في لبنان بوصفها "بطلة" إحدى أشهر عمليات اقتحام المصارف، إنها لم تخطّط لاقتحام المصرف، "لكن المصارف أغلقت كل الأبواب بوجهنا".

وتضيف في حديث إلى "العربي"، أنّ اللبنانيين تعوّدوا على تخوينهم من قبل السلطات في البلاد، نظرًا لافتقارها لطرق المواجهة.

بدوره، يوضح حسن مغنية، رئيس جمعية المودعين في لبنان، في حديث إلى "العربي"، أن جمعية المودعين سجّلت منذ 17 اكتوبر/ تشرين الأول 2019، لغاية اليوم، 8 حالات وفاة بسبب المرض المزمن، لأن المريض المتوفى هو من المودعين الذي لم يستطع الحصول على جزء من وديعته للعلاج في المستشفيات الخاصة.

ويقول مغنية إنه طيلة ثلاث سنوات لم يستطع المودعون أن يستحصلوا على جزء صغير من أموالهم لغياب الخطط السياسية، والقوانين التي تحمي المودعين، وخريطة الطريقة التي تشرح للمودعين كيفية استرداد أموالهم، وضمن أي مدة زمنية.

وعن اتهامهم بتنفيذ أجندات، يشدد مغنية على أن "نظرية المؤامرة يُطلقها الفاشل، ويصدّقها الجاهل، ويتبنّاها المنتفع والمرتشي".

"تفليسة جماعية" ومشكلة أخلاقية

في المقابل، يعتبر أكرم عازوري، محامي جمعية مصارف لبنان، في حديث إلى "العربي"، أن العمليات التي تعرّضت لها المصارف أثّرت بالدرجة الأولى على سلامة موظّفي المصارف، والزبائن غير المقتحمين.

وإذ يعتبر أن هذا الأمر "لا يمكن معالجته بالأمن فقط، لأن الأجهزة الأمنية لا تستطيع أن تضع رجالها بوجه المودع، وبينهما موظف المصرف؛ وثلاثتهم مظلومون"، يؤكد أن العلاج سيكون بحلّ كل حالة على حدة، للحفاظ على سلامة الجميع.

أما القاضي حاتم ماضي، مدعي عام التمييز السابق، فيوضح، في حديث إلى "العربي"، أن اقتحام المصارف يندرج في إطار ما يُعرف باسم "استيفاء الحقّ بالذات"، وهو جرم يعاقب عليه القانون اللبناني. لكن في المقابل، هناك حقّ المودع بوديعته، وهي مشكلة أخلاقية.

كما يشرح إبراهيم نجار، وزير العدل اللبناني السابق، في حديث إلى "العربي"، أن القانون يمنع استيفاء الحقّ عنوة وبالذات، وبالتالي فإن جميع الاقتحامات يجب أن تخضع لملاحقات قانونية.

وبرأي نجار، فإنّ المصارف تلبّي مطالب المودعين بالحد الأدنى، من أجل حفظ ماء الوجه فقط، وكأن البلد أمام "تفليسة" جماعية للمصارف.

هندسات مالية خاطئة

ويشرح عازوري أن ما يجري في لبنان هو أزمة سياسية، نتج عنها أزمة مالية اقتصادية، بقيت خلالها السلطة مستقيلة عن معالجتها، قرابة ثلاث سنوات.

بدوره، يوضح جاسم عجّاقة، الباحث الاقتصادي، في حديث إلى "العربي"، أن الدولة فقدت ملاءتها بالدولار عام 2015، وبالتالي أتت الهندسات المالية لجذب الدولارات من الخارج، ووضعها بين يدي الدولة اللبنانية. وحتى الآن، ووفقًا لمصادر مصرف لبنان المركزي، يمكن القول إن ما ننفقه حاليًا هو نتاج الهندسات المالية الخاطئة.

ويعتبر نجار أنه لا يوجد في لبنان "جهة موثوقة، تملك السطوة والهيبة لإبلاغنا بحقيقة ما يحصل في لبنان"، مضيفًا أن لبنان أصبح اليوم "في قعر البئر".

من جهته، يقول شربل نحاس، وزير العمل السابق، في حديث إلى "العربي": إن كل أصحاب المصارف كانوا يُدركون أن الإفلاس محتوم، وقرّروا المراهنة على الوقت لمحاولة تجميع الأرباح بما يرضيهم دون غيرهم.

ما هو مصير الودائع؟

وسط كلّ ذلك، يعيش اللبنانيون حالة من الخوف على مصير ودائعهم في المصارف، ومثلهم يفعل بعض المودعين العرب، إذ تقدّر أموال المودعين الأردنيين مثلًا بنحو مليار و200 مليون دولار لأفراد ومؤسسات. أما الودائع العراقية، فتقدّر بـ10 مليارات دولار، بينما بلغت الأموال اليمنية 250 مليونًا.

ويشرح مغنية أن الأموال أُودعت في المصارف، التي استثمرتها كاملة في مصرف لبنان، الذي بدوره منحها للدولة اللبنانية عبر موازنات وسلف، موضحًا أن الدولة اللبنانية تستدين من مصرف لبنان بالعملة المحلية أو الدولار، وتسدّد دينها الدولاري بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الرسمي 1515.

بدوره، يقول نحاس: إن أموال المودعين ذهبت بشكل أساسي في قنوات التوزيع السياسي، التي أسّست للولاءات المجتمعية بحيث أصبح الشعب راضخًا لزعماء الحرب، مضيفًا أنه في نهاية عام 2019، كان هناك حوالي 30 أو 35 مليار دولار في مصرف لبنان؛ أما اليوم، فتشير كل الدلائل إلى أنه لم يعد هناك سوى 6 أو 7 مليارات دولار.

من جهته، يعرب نجار عن اعتقاده بارتكاب خطأ جسيم موازٍ للاحتيال، بحيث أصبح لبنان بلدًا مفلسًا، وسرقت الدولة أموال المودعين، وطبّق مصرف لبنان موازنات وتسويات، ما أدى إلى أن المودع أصبح يشهد على ذوبان ودائعه بالدولار، كأنها "جبل ثلج في شمس حارقة".

تهريب الأموال إلى الخارج

ولا يُخفي اللبنانيون خشيتهم من تهريب الأموال إلى الخارج، وهو ما عزّزه تصريح آلان بيفاني، المدير العام لوزارة المالية اللبنانية السابق، عام 2022، عن أن المصارف اللبنانية هرّبت حوالي 6 مليارات دولار منذ اكتوبر/ تشرين الأول 2019، مع دخول البلاد في أزمة مالية، وأن هذه الأموال هُرّبت من قبل مصرفيين لا يسمحون للمودع بسحب 100 دولار من أمواله.

أما حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي تلاحقه قضايا فساد كبيرة، فيُثير أسئلة اللبنانيين الذي يتّهمونه بنقل مبالغ مالية طائلة إلى الخارج بالتزامن مع الحراك الشعبي.

ويعتبر عازوري أن استعمال تعبير "تهريب الأموال" ليس دقيقًا، إذ إن لبنان يتبع النظام الاقتصادي الحر، وفيه حرية مطلقة في التحويلات من وإلى لبنان.

أما عجاقة فيؤكد خروج الكثير من رؤوس الأموال من لبنان، مضيفًا أن السرية المصرفية تمنع معرفة الجهة المالكة لهذه الأموال، ولكن مما لا شك فيه أن العديد من المواطنين العاديين أيضًا حوّلوا أموالهم إلى الخارج خوفًا من الواقع الذي فرضه قرار سلسلة الرتب والرواتب عام 2017.

بدوره، يشير مغنية إلى تحويل 9 مليارات دولار إلى خارج لبنان بعد 17 أكتوبر، أما المبالغ التي حوّلت قبل الثورة فتراوحت بين 18 إلى 19 مليار دولار منذ بداية عام 2019. كما مُنحت المصارف قروضًا تقدّر بـ7 مليارات دولار، بعد ثورة 17 أكتوبر، أعادتها إلى مصرف لبنان على سعر الصرف الرسمي 1515.

من جهته، يؤكد ماضي أن القضاء لم يفتح ملفات المال المهرّب، ولكن أُقرّ قانون التدقيق الجنائي.

اهتزاز ثقة المودعين بالقضاء

واهتزّت ثقة غالبية المودعين بالقضاء اللبناني في البحث عن سبل تحصيل أموالهم المحجوزة في البنوك. فجل الأحكام التي استصدرها المودعون ضد المصارف بواسطة القضاء الابتدائي، توقّفت في مرحلتي الاستئناف والتمييز، وأصبح بتّها أصعب وأبطأ.

ويشرح ماضي أن عدد الدعاوى المقدّمة ضد المصارف إلى الآن لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، لأن القضاة لم يرغبوا بأن يهزّوا الثقة بالنظام المصرفي، ومحاولة تحسين الوضع المالي في البلد. لكن يبدو أن هذه النيّة لم تكن فعّالة، بدليل أن الوضع بقي على ما هو عليه.

بدوره، يقول مغنية: إن جزءًا كبيرًا من القضاء هم من المستفيدين من القطاع المصرفي، عبر قروض من دون فائدة، مشيرًا إلى أن القضاء لم يحكم لصالح المودعين.

ويشير ماضي إلى وجود ضغوط سياسية على القضاء كما في كل المجالات.

ماذا عن دور رياض سلامة؟

وفجّر انهيار العملة المحلية أمام الدولار، وحجز  أموال المودعين، نقمة اللبنانيين على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وسط تحقيقات قضائية في لبنان والخارج حول أعماله.

ويعتبر نحاس أن رياض سلامة كان المضخّة للأموال من الخارج، بينما أدار الزعماء السياسيون قنوات التوزيع.

من جهته، يؤكد نجّار أن ذوبان أموال المودعين هو لمصلحة المصارف، وأن مصرف لبنان يتحمّل المسؤولية في ذلك.

أما عجاقة، فيقول: إن الدولة اللبنانية كانت على إدراك تام أن العام 2016 سيشهد حدثًا ماليًا كبيرًا على صعيد الدولة، مضيفًا أن المصرف المركزي لم يكن ليقوم بمثل هذه الهندسات لو لم يكن هناك غطاء سياسي معيّن استطاع الحصول عليه لتغطية حاجات الدولة من العملات الصعبة.

ويشير ماضي إلى أن أبرز قضية ضد حاكم مصرف لبنان وأخيه وسكرتيرته الخاصة، عالقة في النيابة العامة في محافظة جبل لبنان.

ويوضح نجّار أن التحقيق يختلف عن مسؤولية شخص الحاكم، مضيفًا أنه على الرغم من كل الدعاوى والتحقيقات والتدخّلات الدولية "لم نعرف ما إذا كان هناك خسارة أو تهريب أموال للخارج".

ويشير نجّار إلى أن القانون يفرض أن يبقى رياض سلامة هو حاكم مصرف لبنان حتى انتهاء ولايته.

ما هو دور العقوبات الغربية؟

تكبّد النظام المالي اللبناني خسائر فادحة بما يشمل نحو 44 مليار دولار في المصرف المركزي تتعلّق بإخفاق الجهود الرامية لدعم العملة المحلية، وفقًا لبيانات حكومية عام 2022. وتراكمت الضغوط نتيجة العقوبات الغربية على شخصيات وجهات مالية في لبنان.

ويقول نجّار: إن العقوبات ضيّقت الخناق على اللبنانيين، مضيفًا أن الخطأ الأكبر كان عندما أعلنت حكومة الرئيس حسّان دياب عدم تسديد ديون لبنان باليوروبوند، وهو ما أدخل لبنان عصرًا جديدًا قائمًا على الإفلاس.

من جهته، يوضح نحّاس أن العقوبات الغربية على "حزب الله" وبعض المصارف أتت لتُكمل الأزمة، لكنها ليست السبب الأساسي لما حصل، مضيفًا أن السبب الرئيس هو قرار "المكابرة" الذي اتُخذ عام 1997، كما قال الرئيس الراحل رفيق الحريري: "اشترينا السلم الأهلي بالدين".

من يتحمّل المسؤولية؟

في خريف عام 2021، أصدر البنك الدولي تقريرًا بعنوان: "المرصد الاقتصادي للبنان: الإنكار الكبير"، والذي أشار إلى أن الكساد المتعمّد في لبنان هو من تدبير قيادات النخبة التي تسيطر منذ وقت طويل على مقاليد الدولة وتستأثر بمنافعها الاقتصادية".

ويرى نجّار أن الحكومة الحالية "تتحمّل قدرًا كبيرًا من المسؤولية، وكذلك الحكومات السابقة".

بدوره، يقول عجّاقة: إن الطبقة السياسية ليس لديها الرغبة بالقيام بعمليات استباقية، لأن الوضع على ما هو عليه يضعها خارج المحاسبة.

وأفقدت الأزمة المالية المتفاقمة الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها. بينما قفزت معدلات الفقر إلى 80% بين السكان.

ويقول عازوري إنه يمكن إعادة تكوين الودائع بسهولة، وإنما مع مدة زمنية كافية، إذا أُعيدت الثقة السياسية، وعالجت الحكومة الوضع المالي.

من جهته، يقول نحّاس: إن الحل هو بالاقتناع أن لبنان بحاجة ملّحة إلى دولة، أي سلطة ليست موضوع تنازع، وغير خاضعة لسلطات أعلى منها أي الطوائف.

أما مغنية، فيؤكد أن المودعين يفهمون حجم الأزمة، ومشكلتهم هي مشكلة سياسية بامتياز، مطالبًا بإنصاف المودعين ذوي الحالات المرضية الخاصة.


المزيد عن ظاهرة اقتحام المصارف في لبنان، في الحلقة المرفقة من برنامج "عين المكان".

المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close