Skip to main content

رصاصات "أميّة" وتكفير.. لماذا تُواجَه الأفكار بفتاوى القتل والسجون؟

الخميس 18 أغسطس 2022

في 12 أغسطس/ آب الجاري، تعرض الكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي لهجوم في قاعة كان يستعدّ لإلقاء محاضرة فيها غربي ولاية نيويورك.

فبمجرد اعتلاء سلمان رشدي المنصّة في مدرّج المركز الثقافي، اندفع رجل إلى المسرح وسدّد إلى الكاتب عشر طعنات، بينها خصوصًا طعنات في الرقبة والبطن.

وربط كثيرون حادثة طعن رشدي بفتوى بـ"هدر دمه" كان مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران آية الله الخميني قد أصدرها عام 1988، بسبب روايته "آيات شيطانية".

واعتبر بعض المسلمين الرواية مسيئة للنبي محمد (ص)، فيما اضطر سلمان رشدي للتواري بعدما رصِدت جائزة ماليّة لمَن يقتله، وهي لا تزال سارية.

وبمعزل عن مناقشة أو محاكمة رواية سلمان رشدي، أو مناقشة فتوى الخميني والاعتداء على رشدي مؤخرًا، فإنّ الحادثة فتحت من جديد باب النقاش حول حرية التعبير والتفكير والكتابة وحدود هذه الحرية في مقاربة الديني والاجتماعي والسياسي.

فهل يحق للكاتب أو للمبدع عمومًا التعبير عن رأيه من دون الأخذ في الاعتبار حدود المقدسات والرموز الدينية والحساسيات الثقافية والاجتماعية؟ ومن يقرر تلك الحدود؟

وقبل هذا وذاك، هل يجب التسامح مع الآراء أو النصوص المختلفة؟ ولماذا لا تواجَه النصوص بالنصوص والأفكار بالأفكار عوضًا عن فتاوى القتل والسجون والملاحقات؟

فتاوى قتل ينفذها "أميون" لا يعرفون القراءة

رغم اختلاف الظروف والتفاصيل، وربما الخلفيات، لا تُعَدّ حادثة التعرض للكاتب سلمان رشدي الأولى من نوعها، إذ شهدت الثقافة العربية تحديدًا في العصر الحديث نماذج عديدة من الاعتداءات على الكتّاب والمفكّرين بسبب مؤلفاتهم.

لعلّ أشهر هذه النماذج تتمثل في الكاتب المصري فرج فودة الذي دفعت كتاباته آخرين للحوار معه، لكنها دفعت في الوقت نفسه آخرين للنيل منه وشتمه، بل وتكفيره، فيما قتله أمّي لا يعرف القراءة والكتابة في الثامن من يونيو/ حزيران 1992 بناءً على سماعه فتوى بإهدار دمه.

وجّه فرج فودة في كتبه ومناظراته نقدًا حادًا للحركات السياسية الإسلامية واعتبر أفكارها انحرافًا عن الإسلام، الدين الذي يؤمن به، وتجاوزًا له إلى إسلام الدولة الذي عارضه واعتبره فكرًا بشريًا قاصرًا ومشروعًا سلطويًا يقوم على الشعارات الدينية لا البرنامج السياسي الواضح، وهو ما اعتبره بعض خصومه نيلًا من الإسلام ذاته، فكانت الفتوى بردّته وإهدار دمه.

ما حدث مع فودة كان قد حدث بشكل أو بآخر مع الأديب العالمي نجيب محفوظ في 14 أكتوبر عام 1965 حيث تعرض له فنّي كهرباء شهد بأنه لم يقرأ حرفًا ممّا كتب محفوظ وطعنه في رقبته بناء على فتوى من شيخ الجماعة الإسلامية عمر بن عبد الرحمن.

تعرض الأديب العالمي نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال عام 1965 على يد فني كهرباء لم يقرأ شيئًا من كتبه - غيتي

مفكّرون يتعرّضون للملاحقة بسبب آرائهم

أما المفكّر السوداني محمود محمد طه فقد تعرّضت له الدولة نفسها بسبب آرائه السياسية والدينية وتأسيسه حزبًا يدعو إلى استقلال السودان وإلى الجمهورية، وإصداره كتبًا تدعو إلى تجديد فهم الإسلام، ما تسبّب في ملاحقته وسجنه ومحاكمته بتهمة الردّة مرّتين، الأولى عام 1968 والثانية عام 1985، حيث صدر الحكم بإعدامه شنقًا في ما عُرف بـ"جريمة العصر".

لكنّ "جريمة العصر" هذه تجدّدت مرارًا وتكرارًا مع آخرين بصيغ مختلفة تتراوح بين القتل والتكفير والنفي والملاحقة الأمنية واستهداف الرزق والسمعة والأمان الشخصي، ومن هؤلاء عميد الأدب العربي طه حسين الذي ذهب بأفكاره إلى النيابة وواجه فتاوى بالكفر والردة طوال حياته وبعد موته.

ومنهم أيضًا المفكّر المصري نصر حامد أبو زيد الذي عوقب على كتاباته بحكم قضائي بالردّة والتفريق بينه وبين زوجته، والروائي السوري حيدر حيدر بعد نشره روايته "وليمة لأعشاب البحر"، والذي واجه اتهامات بالكفر والضلال، وفتاوى وآراء دينية تطالب بمحاكمته وتحريم نشر الرواية أو تداولها ووجوب إتلافها، وغير هؤلاء كثيرون.

واجه عميد الأدب العربي طه حسين فتاوى بالكفر والردة طوال حياته وبعد موته - ويكيبيديا

حوادث تكرّرت على امتداد التاريخ الإسلامي

ولا تُعَدّ مثل هذه الأمور حكرًا على العصر الحديث، إذ تكرّرت قبل ذلك على امتداد التاريخ الإسلامي، حيث شهد العام 311 هجرية كما يخبرنا ابن الجوزي، إحراق صورة ماني ومعها حمل أربعة جمال من الكتب واتهام أصحابها بـ"الزندقة"، وهو ما جرى في كتب العابد الزاهد ابن مسرّة، وفي خزائن المستنصر، حيث عمد إليها الحاجب المنصور الأندلسي بعد تغلّبه وأحرق ما فيها من كتب فلسفية تحبّبًا إلى العوام، وتقبيحًا لرأي المستنصر كما يخبرنا الصفدي.

كذلك أمر أبو محمد يوسف بن تاشفين بحرق كتب أبي حامد الغزالي وهو ما فعله أمير الموحّدين المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بكتب المذاهب، فأحرق كتاب المدوّنة، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبي زيد ومختصره، والتهذيب للبراذعي، وواضحة ابن حبيب، وذلك كما يخبرنا النويري، ليمحو مذهب مالك من بلاد المغرب، ويحمل الناس على ظاهر الكتب والسنّة، وهو ما تعرّض له ابن رشد، حيث أمر المنصور بحرق جميع كتبه الفلسفية.

ويحكي زين الدين عمر ابن مظفر الوردي أنه عام 744 هجرية جرى تمزيق كتاب فصوص الحكم لابن عربي بالمدرسة العصرونية بحلب، وتحريم اقتنائه أو مطالعته.

ومن تمزيق الكتب وإحراقها وتحريم قراءتها، إلى محاكمة أصحابها، وهو ما حدث مع أبي حنيفة ومالك ابن أنس وأحمد ابن حنبل والشافعي وذي النون والمصري وابن عربي والنَسائي والنووي وابن تيمية وعبد القادر الجيلاني وابن رشد وابن الخطيب.

ومن المحاكمة والملاحقة والسجن والنفي والتكفير، إلى إهدار دم المفكّرين وذبحهم أو شنقهم عبر تحالف السلطان ووعّاظه، وهو ما جرى مع سعيد ابن جبير والجعد ابن درهم وغيلان الدمشقي وزيد ابن علي ومعبد الجهني وجهم بن صفوان وابن جرير الطبري والمروزي والحلاج والسهروردي.

بين حرية التعبير وحدود المقدس

يرى الكاتب الأردني ورئيس قسم الرأي في صحيفة "العربي الجديد" معن البياري أنّ المقدّس هو ما هو ألوهي وما يتعلق بالعبادة وبصلة العبد بخالقه وما له جلال ومهابة خاصة وما يتعلق بالشعائر الدينية وأيضًا الرموز والأسماء المرتبطة بالأنبياء والملائكة والمساجد.

ويشير في حديث إلى "العربي"، إلى أنّ هذه المسميات كلها توضع ضمن سياق المقدس، "لكن لا يجوز أن نتجاوز إلى ما هو دنيوي وسياسي ويجب أن يبقى المقدس في حدود ما هو رباني وما يتصل بالعقيدة وشعائرها والعبادة فقط".

وفيما يعتبر أنّ "الحرية مفهوم شرحه يطول ومن الصعب منحه تعريفًا محدّدًا"، يشدّد على أنّ "من حق الكاتب أن يقترب ممّا يشاء من موضوعات وأفكار ورؤى". لكنّه يلفت في الوقت نفسه، إلى أنّ "الكاتب يحسن به أن يتحلى بالمسؤولية وأن يتحسّب من أي رقابة مسبقة ويحاول التحرر منها".

ويوضح أنّ حرية التعبير وحرية الرأي بما لها من أولوية ومنزلة هامة جدًا في عملية الإبداع والكتابة لا يجوز لها أن تتقدّم على أولويات أخرى مثل السلم الاجتماعي والسلم الأهلي، مضيفًا في الوقت نفسه أنّ ذلك "لا يعني مهادنة المجتمعات والثقافات بمعنى التواطؤ مع ما يراه الكاتب موضع انتقاد ومساءلة".

حرية التعبير أساس التقدم العلمي

من جهته، يعتبر الباحث الأكاديمي الجزائري وأستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة الكويت الزواوي بغورة أنّ المقدّس يحيلنا إلى العالم الديني، حيث أن المقدس يتصف دائمًا بالتعالي وبالسمو ويظهر في جملة من الطقوس أو الشعائر أو العبادات.

ويوضح في حديث إلى "العربي"، أنّ المقدّس الديني في المنظور الإسلامي العام يتعلق يتعلق بالله والملائكة والأنبياء والكتب المقدسة ومنها القرآن الكريم، مشيرًا إلى أنّ "المقدس بهذا المعنى محصور في المجال الديني".

لكنه يلفت إلى "وجوب الإقرار بأن صفة القداسة ليست دائمًا ثابتة وإنما هي متغيرة وكذلك تخضع للانتزاع إذ من الممكن أن تتصف بعض الظواهر بالقداسة ولكن مكانتها تتغير تاريخيًا".

ويرى أن "حرية التعبير من الناحية النظرية قيمة ناظمة للحكم المعاصر وللحكم الحديث لكن المشكلة الكبرى هي في التفاصيل والنصوص التي تقرّ وتسمح بممارسة هذا الحق".

ويتحدّث عن مسافة كبيرة بين حرية التعبير في النظم الديمقراطية الغربية تحديدًا وفي النظم غير الغربية، مشدّدًا على أنّ حرية التعبير هي أساس التقدم العلمي، ولا يمكن أن نتصوّر تطورًا في البحث العلمي إذا كنّا نضع حدودًا معينة.

مجتمعاتنا "تدين" الكاتب على أشياء لم تقرأها

أما الكاتب الصحافي والروائي المصري إبراهيم فرغلي فيلفت إلى أن المقدس بشكل عام ارتبط مع سؤال الإنسان عن معنى الحياة وما بعد الموت.

ويوضح في حديث إلى "العربي"، أنّ فكرة المقدس ارتبطت من البداية بالقوة وأصبح هناك ارتباط بين هذه الفكرة مع عناصر أخرى مثل اللغة أو النص الديني والأنبياء بوصفهم ناقلي الرسالة الدينية إلى المجموعات البشرية.

إلا أنّه يعتبر أنّ ما يحصل حاليًا هو نوع من إزاحة المقدس عن مكانه الطبيعي إلى عناصر قد تكون جديرة بالاحترام لكنها ليست مقدّسة بالمعنى الحرفي وهو ما يخلق نوعًا من الالتباس لدى الناس.

ويلفت إلى أنّ الإنسان مطالب باستخدامه عقله للتفكير بحرية وتدبر لكن الكاتب العربي لا يمكن مقارنة وضع حريته في التعبير مع كاتب غربي نشأ في بيئة ليبرالية ومؤمنة بقيم الحرية.

ويوضح أنّ "المشكلة في بعض مجتمعاتنا، خلافًا للمجتمعات الغربية، أنها لا تقرأ وفي الوقت نفسه تدين الكاتب على أشياء لم تقرأها، وهذا جزء معيق أكثر بالنسبة للكاتب".

المصادر:
العربي
شارك القصة