الأحد 21 أبريل / أبريل 2024

عصابات كاليه.. كيف يتمّ تهريب البشر عبر القناة الإنكليزية؟

عصابات كاليه.. كيف يتمّ تهريب البشر عبر القناة الإنكليزية؟

Changed

شقّ المهاجرون طريقهم عبر الأمواج العالية التي تكسّرت بقوة على القارب.
شقّ المهاجرون طريقهم عبر الأمواج العالية التي تكسّرت بقوة على القارب (غيتي)
نشر الجندي البريطاني السابق عدنان سروار، في تقرير ميداني لصحيفة "نيولاينز ماغازين"، عن تغللّه ضمن عصابة لتهريب اللاجئين من كاليه الفرنسية إلى بريطانيا.

نشر الجندي البريطاني السابق عدنان سروار، في تقرير ميداني لصحيفة "نيولاينز ماغازين"، تفاصيل حول تسلّله ضمن عصابة لتهريب اللاجئين من كاليه الفرنسية إلى بريطانيا، في رحلة محفوفة بالمخاطر، بعد تظاهره بأنه رجل أعمال مهاجر من باكستان وعالق في فرنسا.

وفيما يلي بعضٌ ممّا جاء في "شهادة" سروار، الذي سلّط الضوء في مقالته على قضية قوارب الموت والهجرة إلى المجهول من بوابة إنسانية، كاشفًا عن طرق "عصابات التهريب" في هذا الإطار.

"يا بابا!" تبكي الفتاة الصغيرة ذات السنوات الأربع، الواقفة على الشاطئ وذراعاها ملفوفتان حول ساقي أمها، وأمامها البحر الأسود الواسع الممتد إلى سماء مظلمة، حيث يقف والدها في أعماق البحار. 

كانت الساعة الثالثة من فجر الأول من سبتمبر/أيلول 2020. هنا على شاطئ بليريوت في كاليه الفرنسية، إلى الجانب الآخر من القناة الانكليزية، أكثر ممرات الشحن ازدحامًا في العالم.

كنا نشعر بقوة البحر وهي تدفعنا. إلى الأمام، يحمل رجال سوريون وعراقيون وإيرانيون قاربًا مطاطيًا رمادي اللون. ينحني رجل آخر في محاولة يائسة لتشغيل المحرك. وعلى عكس البقية، فهو لا يرتدي سترة نجاة لأنه ليس من ركاب هذه الرحلة من كاليه إلى دوفر، إنه يعمل لصالح عصابة تهريب البشر. وإذا بالمحرّك يشتغل.

عاد والد الفتاة إلى الشاطئ واصطحبها. هي لا تريد الذهاب. وضعها في القارب، وصعدت والدتها. قفز المهرب ووقف بالقرب مني. اثنا عشر شخصًا على متن قارب يتّسع لثمانية أشخاص. سمعت أن العصابات تُجبر أعدادًا كبيرة من اللاجئين على ركوب القوارب بالأسلحة  لتحقيق ربح مادي أكبر. لكن الليلة يميل الناس لعناقه، وهو، بدوره، يتمنّى لهم رحلة آمنة.

وفي أكثر حالاتهم ضعفًا، يصرخ لي هؤلاء اللاجئون، الذين دفعوا آلاف الجنيهات ليكونوا على متن القارب، والذين شقّوا طريقهم إلى الساحل، ونفخوا القارب بمضخّة يدوية وحملوه إلى الماء: "يلا أخي. دعنا نذهب. أخي، ادخل، نحن ذاهبون إلى إنكلترا الآن ". 

رفضتُ الصعود إلى القارب، لكنّ المهرب حثّني على الصعود إلى القارب قائلًا: "لا يهمّ إذا لم تقم بالدفع". كان يُمكن لشخص يائس بلا نقود أن يتحيّن هذه الفرصة وينضمّ للرحلة.

شقّوا طريقهم عبر الأمواج العالية التي تكسّرت بقوة على القارب. سيتعيّن عليهم تجنّب العبّارات هائلة الحجم التي تحمل ما يبلغ ألفي راكب، وناقلات النفط الضخمة التي جعلت تلك العبّارات تبدو قزماً. وفرّ المهرّب.

استغرقت العملية مهارة وتخطيطًا وجرأة، وكنت هنا لأتعلم كل ما يمكنني معرفته عن أعمالهم.

رحلات تقتل الناس

لأشهر، تظاهرت بأنني رجل أعمال مهاجر من باكستان وعالق في فرنسا. في الواقع، كنت أعمل مع مذيع بريطاني حريص على فهم كيف تمكّنت العصابات من نقل اللاجئين والمهاجرين عبر البحر من كاليه إلى دوفر. 

هذه الرحلات كانت تقتل الناس. ويُعتقد أن ميترا مهراد (31 عامًا) طالبة دكتوراه إيرانية، كانت الضحية الأولى. في 9 أغسطس/ آب 2019، غادرت على متن قارب تعرّض لمشكلات قبالة سواحل إنكلترا. يقول ناجون إنها قفزت إلى الماء لإنقاذ رضيع يبلغ من العمر خمسة أشهر، ليتمّ العثور على جثتها بعد تسعة أيام قبالة الساحل الهولندي. زار والدها السفارة الهولندية في طهران، وتمّ نقل عينة من الحمض النووي منه جوًا إلى هولندا، لمُطابقتها مع عينة مأخوذة منها. واتُّهم المهربون المسؤولون بالقتل غير العمد في ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته.

التواصل مع المهربين

بدأ التحقيق الميداني في فبراير/شباط 2020. وبدأ بالتراسل عبر "تليغرام" مع مهرّبين. شكّل الإيرانيون النسبة الأكبر من المهاجرين في مخيم كاليه. تحدّث معظمهم الإنكليزية بطلاقة، وكانوا يأملون بأن يجدوا عملًا بسهولة. كما أملوا أن يتمّ استقبالهم بترحاب من قبل الحكومة البريطانية. وعزّز مواطنوهم الذين سبقوهم هذا الانطباع. 

شكّل الإيرانيون النسبة الأكبر من طالبي اللجوء في بريطانيا مع يونيو/ حزيران 2020. ويعيش المئات من المهاجرين في الغابات خارج كاليه، بانتظار منحهم اللجوء في فرنسا، أو يسعون للوصول إلى بريطانيا. وتقوم السلطات الفرنسية بتفكيك المخيمات التي يعيشون فيها بشكل دوري، للتظاهر أمام بريطانيا أنهم يأخذون التدابير بحقّهم. وبات الخيار الوحيد أمام هؤلاء اللاجئين هو إنشاء مخيم جديد.

في مخيم كاليه

في أحد هذه المخيمات، أمضيت أشهراً للتعرّف على أفراد عصابات التهريب، وغالبيتهم من السوريين والعراقيين والإيرانيين، والسودانيين، والأفغان، وعدد قليل من الباكستانيين، ولهذا ساورهم الشكّ حولي. تحدّاني اثنان من أفراد العصابة، مطالبين رؤية جواز سفري الباكستاني، لكنني أخبرتهما أنني فقدته في كرواتيا، وأنني أبحث عن باكستانيين آخرين للهروب معهم إلى بريطانيا. لكن لم يكن هناك أي باكستانيين في المخيم على الإطلاق.

بقيت في الغابة حتى تلاشت شكوكهم بي. أخبرت الجميع أنني سافرت برًا من باكستان إلى فرنسا.  هناك القليل من فترات الراحة في رحلة المهاجر. التقيت باللاجئين الذين وصفوا كيف أخذت الشرطة الكرواتية ملابسهم ووثائقهم وحرقوها في براميل النفط. وتعرّض آخرون للضرب حيث انتهى بهم الأمر إلى الفقر والتسول في المدن.

دفع تكاليف الرحلة

أخبرتهم أن لدي عائلة في بريطانيا يمكنها دفع تكاليف العبور. بصرف النظر عن اتصالنا الأولي على  "تلغرام"، تحدثت إلى العديد من العملاء والمهربين، وكان السعر بين فبراير/شباط وأكتوبر/ تشرين الأول 2020 هو 3500 جنيه إسترليني (حوالي 4700 دولار) للشخص الواحد.

يوفّر المهربون الوسائل لبدء الرحلة، لكن لا يُمكنهم ضمان أنها ستنتهي بأمان.

أخبرني الشخص الذي اتصلت به، أن أول شيء يتعين علي القيام به؛ هو إيداع المال في محل صرافة في لندن. سيؤدي هذا إلى وضع اسمي على قائمة وستتولّى العصابة كل شيء في فرنسا. ذهب فريقي لرؤية أحد "رجال المال". أثناء تصويره سراً، أوضح أنه إذا ألغينا الرحلة أو لم أقم بها، فسيُعيد لي المال. كما أكد أن الوضع آمن للغاية، وأن امرأة واحدة فقط ماتت وهي تفعل ذلك. كان يتحدّث عن مهراد. نصحنا بالحصول على قارب جيد. لم يسمح لنا بدفع المال له، لكنه زوّدنا بالمعلومات الاستخبارية اللازمة.

بالعودة إلى كاليه، كنت محاطًا بأشخاص فقدوا منازلهم وصحتهم ووثائقهم. وصل البعض إلى بريطانيا، ليتمّ إعادتهم إلى فرنسا بموجب لائحة دبلن، وهو قانون أوروبي يُحدّد الدولة التي يجب أن تكون مسؤولة عن اللاجئ. ومع ذلك، عند مغادرة الاتحاد الأوروبي، فقدت بريطانيا قدرتها على إعادة الأشخاص. دفع هذا الناس إلى الاندفاع إلى شواطئها في عام 2020.

تبرّعات إنسانية

حين فشلت الدول الأوروبية الغنية بمعالجة اللاجئين، قامت المؤسسات الخيرية بسد الفجوة. رأيت شبانًا معاقين يقدّمون المساعدة. في الغابة، رأيت نساء يدفعن الأطفال في عربات أطفال أعطتها لهم منظمات الإغاثة. توفر الجمعيات الخيرية أيضًا الطعام يوميًا، والطاقة لشحن الهواتف، ولإضاءة الخيام، وشاحنة استحمام أسبوعية للأشخاص لغسل أنفسهم وأطفالهم. لطالما أصرّ المهاجرون على أن آكل معهم، وكنت أتظاهر بأنني أعاني من أوجاع في المعدة لتجنّب اقتطاع جزء من إمداداتهم الضئيلة.

كان معظم الناس يرتدون ملابس تمّ التبرّع بها. لكن وسائل التواصل الاجتماعي كانت لا تزال تعجّ بالمعلقين الذين يرون أنهم ليسوا أشخاصًا بحاجة إلى المساعدة لأن ملابسهم تبدو نظيفة أو لأنهم يحملون هواتف ذكية. في الواقع، بعض اللاجئين لديهم هواتف ذكية وملابس جميلة، والبعض الآخر يتحدث الإنكليزية جيدًا-ولم يمنعهم أي منها من التعرّض للقصف أو الاضطهاد خارج بلادهم. 

لقد أجريت اتصالات مع المهربين على تلغرام، لكن على أرض الواقع، كان من الصعب تحديد مكانهم لأنهم استخدموا هواتف محمولة وقاموا بتغيير أرقامهم بانتظام. كانوا محترفين مع انضباط ميداني جيد. لن تسمع أبدًا في الغابة إذا كان هناك معبر في تلك الليلة. كانت تدريباتهم سلسة، واستغرق الأمر وقتًا للتسلّل إلى المجموعات. كنت أحمل معي شاحنا إضافيا، ما يعني أن الكثيرين سيأتون إلي لشحن هواتفهم. وبينما كنا ننتظر على الصخور بالقرب من الأشجار، كشفوا التفاصيل التي ساعدتني في تجميع تفاصيل عملياتهم معًا.

التخطيط للرحلة

في المساء، عندما تتكسّر الأغصان في نيران المخيم، كنت أسمع جوقة من اللغات - العربية والفارسية والكردية وما إلى ذلك. عدد الأشخاص الذين يشقون طريقهم عبر القناة الإنكليزية صغير. غالبيتهم يهربون من حروب في سوريا والسودان ومن النظام في إيران. ومن هذا النزوح الجماعي للملايين، وصل البعض إلى البرّ الرئيسي لأوروبا، حيث استقرّ الكثيرون في ألمانيا، وعبر حوالي 8400 شخص في عام 2020 القناة من فرنسا إلى بريطانيا.

 

تقضي العصابات القليل من الوقت في الغابة. لكن في النهاية، قابلت أحد رؤسائهم. "ادفع أموالك وسنقلّك من المخيم ونأخذك إلى الشاطئ"، قال مساعدوه. "لم أستطع أخذ أغراضي. لا يمكنني أخذ الهاتف. سيتمّ إخفاء القوارب في مكان قريب أو يتمّ نقلها إلى هناك في شاحنات صغيرة. وسأكون هناك، على بعد ساعة من الغابة، و 20 ميلًا بحريًا من إنكلترا.

رغم أن الكثيرين ماتوا أثناء محاولتهم العبور، إلا أن معظمهم نجحوا. تستخدم العصابات تطبيقات مثل "ويندي" للتأكد من أن ارتفاع الأمواج لا يزيد عن 1.5 أقدام، وأن الرياح شمالية غربية، لذلك ستُساعد القارب. يتمّ تزويد الركّاب بسترات نجاة وأحيانًا مشاعل. قيل لهم أن يستهدفوا الأضواء الخمسة العمودية الحمراء على سارية راديو في دوفر، والتي يمكن رؤيتها من شواطئ كاليه.

بداية ونهاية

بعد أشهر من الاتصال، والمتابعة، والتظاهر، والمشاهدة، واللغز، اجتمع كل شيء في إحدى الليالي. كنت هناك على الشاطئ لأشهد العبور.

سرعان ما اختفى القارب في رحلته التي كان من المحتمل أن تكون قاتلة. وقفت هناك أفكر في الفتاة الصغيرة في البحر. صرختها لأبيها تخطّت كل الضجيج والتعقيد واختصرتها إلى حقيقة بسيطة: "كان هذا كله يتعلّق بالأشخاص الذين يخافون من بحر غادر، أقلّ من الخوف أو اليأس الذي يفرون منه.

في اليوم التالي، شعرت بالارتياح لرؤية صور العائلة تصل إلى إنكلترا ويتمّ نقلها إلى مبنى للمعالجة. ربما نجحوا في ذلك وسيحصلون على حقّ اللجوء. ربما تحصل على مكان آمن للإقامة، حيث يمكنها تشغيل الأضواء، والتحرر من القلق أو الجوع، والتمتع بصحة جيدة، والذهاب إلى المدرسة، وتكوين صداقات، والحصول على وظيفة، وكسب الحياة، وتكوين أسرة، والتقدّم في السنّ- وذات يوم تروي قصة الليلة التي غيّرت حظها.

لكن معظمهم ليسوا محظوظين. وبعيدًا عن مخاطر البحر، وجّهت الحكومة البريطانية المشاعر المتنامية المعادية للأجانب في الداخل، من خلال استخدام تدابير صارمة لإيقاف القوارب، بما في ذلك السفن البحرية والطائرات العسكرية بدون طيار والقوارب السريعة.

لكن بعد أن عدت إلى بريطانيا، في أكتوبر، غرقت عائلة مكوّنة من خمسة أفراد قبالة سواحل فرنسا.

المصادر:
"نيولاينز ماغازين"

شارك القصة

تابع القراءة
Close