فيما كان لبنان يغرق أكثر فأكثر في أزمته الاقتصادية والمالية، كانت الملفات المالية القضائية الأوروبية تكتمل شيئًا فشيئًا إلى يومنا هذا، يوم حان موعد المواجهة.
تصل ثلاثة فرق من المحقّقين من ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ تباعًا إلى بيروت. وتقول مصادر مطلعة إن أعضاءها هم من كبار القضاة والمحقّقين، إضافة إلى أن الوفد الألماني يضمّ رئيسة الشرطة القضائية.
ولا يزال الغموض يلف أعضاء الوفد الفرنسي، حيث تُطرح الأسئلة حول ما إذا كان سيضمّ القاضية أود بوروزي التي تُوشك على إصدار قرار قضائي يتّهم الأوكرانية آنا كوزاكوفا، التي يُعتقَد أنّ علاقة تربطها بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وأنّها والدة ابنته وفق ما تنقل صحف ووكالات أنباء، بجرم تبييض الأموال.
وذكرت مصادر لـ"العربي" أن بوروزي زارت لبنان في أواخر مايو/ أيار الماضي، بعدما تأخرت السلطات اللبنانية في تسليم الجانب الفرنسي عددًا من المستندات التي طلبتها لاستكمال ملف التحقيق، ووعدت يومها بإرسال هذه المستندات، "وهو ما لم يحصل".
محققون أوروبيون يصلون #بيروت للتحقيق في قضايا تحويل الأموال إلى الخارج👇#لبنان تقرير: جويس الحاج خوري pic.twitter.com/1jdUeDDuYs
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) January 9, 2023
وطلب المحقّقون الأوروبيون الاستماع إلى أربعة عشر شاهدًا ومشتبه به واحد حتى الآن، من بينهم حاكم مصرف لبنان الذي وجّه له القضاء الألماني تهمة تبييض الأموال في ميونيخ.
ومن بين الشهود أيضًا مدراء سبعة مصارف، وكبار موظّفي شركة تدقيق دولية في حساب المصرف المركزي، وموظّفين كبار في مصرف لبنان. وتقول المعلومات إن المحققين الأوروبيين قد أعدوا ملفاتهم القضائية، وما ينقصهم هو بعض المستندات أو الوثائق، التي سيساهم التحقيق في تأمينها.
"سيادية" عمل الوفد الأوروبي
ومع أن أسئلة ومخاوف عدة طُرحت في الآونة الأخيرة حول سيادية عمل الوفد الأوروبي، إلا أن تعاون القضاء اللبناني مع الوفد وتسهيل مهمته يبرز في المقابل، بما يحدّ من الهواجس المُثارة.
وفي هذا السياق، يقول وديع عقل، وهو محامٍ لبناني متخصّص بالجرائم المالية، وسعى مع آخرين في الأشهر الماضية إلى الدفع باتجاه إنجاز الملفات القضائية الأوروبية، إن "كل التحقيقات ستجري تحت سقف القانون وفقًا لمعاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقّع عليها لبنان".
ويكشف عقل، في حديث إلى "العربي"، من بيروت، أن المراسلات القضائية بين الدول الأوروبية ولبنان ليست جديدة، موضحًا أن التعاون قائم منذ ثلاث سنوات بين قضاة من أوروبا وآخرين في لبنان.
وتتبع زيارة الوفد الأوروبي هذا الأسبوع وانطلاق التحقيقات من يوم الإثنين في السادس عشر من الشهر الجاري وحتى العشرين منه، جولات تحقيق أخرى تشمل حاكم البنك المركزي رياض سلامة، في ظلّ تعاون كامل من الجانب اللبناني.
وكشفت مصادر قضائية لـ "العربي" أن قصر العدل يشهد تحضيرات لوجستية لمواكبة التحقيق، وتمّ فرز فرق أمنية لمواكبة القضاة ولإرسال التبليغات للأشخاص المنوي الإستماع إليهم.
وفي هذا الاطار، يقول عقل إن التحقيقات "ستجري على مستويين، الاستجواب والاستماع، وهذا يعني أنه في حالة الاستجواب يمكن الادعاء على من تمّ استجوابه، أما من سيتمّ الاستماع إليهم، فقد يتمّ الادعاء عليهم أو اعتبارهم شهودًا في الملفات".
مصادر للعربي تكشف عن بداية التحقيق مع 30 مسؤولا لبنانيا يوم الاثنين المقبل في قضايا مرتبطة بتحديد مصادر أموال حاكم مصرف #لبنان👇 pic.twitter.com/iMDacTo0Mw
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) January 7, 2023
ويكشف عقل أن المحققين الألمان طلبوا الاستماع إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وشقيقه رجا سلامة، ومارينا حويك، وغابريال جان، ومروان عيسى الخوري، وندى سلامة، الذين هم اليوم في عداد المتهمين من قبل القضاء الألماني بتهمة تبييض الأموال.
أما المحققون الفرنسيون، فتتعلّق مهمتهم بملف آنا كوزاكوفا التي تُواجه في فرنسا صفة أكثر من مدعى عليها وأقل من متّهمة، بانتظار اكتمال الملف للوصول إلى درجة الاتهام.
وكوزاكوفا متّهمة بتبييض الأموال لصالح رياض سلامة من خلال تسجيل عقارات في فرنسا باسمها، وفتح حسابات مصرفية أيضًا.
رياض سلامة.. "نجم الملف"
وفي هذا الإطار، يتوقّع عقل أن يحمل الفرنسيون مفاجآت بعد التحقيق في ملف كوزاكوفا؛ ويقول: "علينا أن نتوقّع قرارات كبيرة يمكن أن تتخذ في بيروت أو أوروبا، فنحن في مرحلة مفصلية وأساسية في التحقيقات المالية المرتبطة بعمليات اختلاس حصلت في لبنان وتبييض أموال حصلت في أوروبا".
ويذكّر عقل بخطوة مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات قبل أشهر، حينما ادعى على سلامة بجنايات وجنح. وإذ يجزم أنّ "رياض سلامة سيكون من ضمن من سيتم استجوابهم في بيروت"، يلفت إلى وجوب عدم الحكم على الأمور مبكرًا، "فأي عملية استجواب أو جمع إفادات يمكن ان تتطلب استجوابات وإفادات أخرى".
ويقول: "نحن أمام ملف قضائي مالي جدي يمكن أن تتكشّف عنه عناصر تؤدي إلى مزيد من العمل والتوسّع في التحقيق".
ويخلص إلى أنّ "رياض سلامة سيكون نجم الملف"، مضيفًا: "هو الملف وهو الجريمة بحد ذاته، ومنه تتفرّع باقي الجرائم".
"انهيارات شبيهة بمفاعيل الدومينو"
هو مسار قضائي إذًا، يُشرّع أبواب لبنان على سيناريوهات كثيرة. يقول المطلعون: "ربما لم يدرك اللبنانيون بعد، مسؤولون ومواطنون، أهمية ما سيشهده لبنان"، والذي يصفه متابعون لهذه الملفات ومسارها، بأنه "قد يؤدي إلى انهيارات شبيهة بمفاعيل الدومينو".
وفي هذا السياق، يكشف مدعي عام التمييز السابق القاضي حاتم ماضي في حديث إلى "العربي"، من بيروت، أن القضاء الأوروبي يمكن أن يأخذ أي قرار يراه مناسبًا بحق المشتبه بهم أو المتهمين بعد إنهاء ملفه وإصدار أحكامه.
وفيما يلفت إلى أن "القضاء الأوروبي لديه الحرية على أرضه ليطال أيًا من هؤلاء"، يشير إلى أنّهم "إذا كانوا على الأراضي اللبنانية، فلن يتم تسليمهم من قبل السلطات اللبنانية، بل هي الجهة التي ستقوم بتنفيذ الأحكام بحقهم في بلدهم".
30 مسؤولا لبنانيا يمثلون أمام القضاء بخصوص قضايا مرتبطة بتحديد مصادر أموال حاكم المصرف المركزي#للخبر_بقية #لبنان pic.twitter.com/mabhWN3oJ8
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) January 7, 2023
ويضيف القاضي ماضي أنه في حال وصلت هذه الملفات إلى خواتيمها "فهذا يعني أن لبنان سيكون قادرًا على استرداد الموجودات من أموال منهوبة، شرط أن يثبت أن هذه الأموال نُهبت فعليًا، أو أن مصدرها غير شرعي، أو أنها ناتجة عن تبييض أموال، أو أعمال غير شرعية، أو فساد سياسي".
بمعنى آخر، يقول ماضي، "يجب أن تشكّل خطوة المحققين الأوروبيين ارتياحًا لدى اللبنانيين، فالتحقيقات تجري في ملفات تتعلّق بارتكابات في الخارج، لكنها ستكشف معلومات ونتائج عجز لبنان عن التوصل إليها". ويضيف أن "هذه المعلومات ستكون مفيدة للبنان، خصوصًا أن بعض الجرائم التي يتمّ التحقيق فيها، ارتُكبت على الأراضي اللبنانية".
وحول الآلية اللوجستية لعمل المحقّقين، الذين سيوجّهون أسئلتهم من خلال قاض لبناني، يوضح ماضي إن "إمكانية إحضار أي شاهد أو مشتبه به، يمكن أن تحصل بالقوة إذا امتنع عن الحضور، ولكن شرط أن يُصدر القاضي اللبناني هذا القرار بعد التشاور مع الوفد الأوروبي"، لكنه في الوقت نفسه، يستبعد مثل هذه الخطوة لما سيكون لها من تداعيات.
ويخلص القاضي ماضي إلى أن لبنان "سيقدّم كل المساعدة اللازمة إيفاءً بالتزامه تجاه المجتمع الدولي".
وكشفت مصادر قضائية لبنانية لـ"العربي"، أنه تمّ إبلاغ أربعة مصارف لبنانية من بين المصارف السبعة المطلوب الاستماع إلى رؤسائها، بمواعيد الجلسات في السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين من الشهر الحالي.
وأضافت مصادر "العربي" أن استدعاء هذه المصارف جرى على خلفية قيام شقيق رياض سلامة بتحويل مئتي مليون دولار من مصارف فرنسية وألمانية إلى تلك المصارف، من دون أن يُعرف مصيرها، وهو ما سيتمّ استجوابهم حوله.
وستكون هذه الملفات المالية ونتائج التحقيقات فيها، موضع اهتمام ومتابعة لبنانية، على الرغم من الشكوك في احتمال أن تصل إلى خواتيمها في كشف الحقيقة، في بلد اعتاد غياب التحقيق الشفّاف، وانعدام المحاسبة.