الثلاثاء 7 مايو / مايو 2024

ثورة أكتوبر 1964 في مذكرات فاروق أبو عيسى.. عشرة أيام هزت السودان

ثورة أكتوبر 1964 في مذكرات فاروق أبو عيسى.. عشرة أيام هزت السودان

Changed

"العربي" يفتح ملف ثورة أكتوبر 1964 في السودان من خلال مذكرات القيادي المعارض فاروق أبو عيسى
شكلت ثورة أكتوبر 1964 حدثًا فارقًا في تاريخ السودان، الذي كان حينها قد حصل على استقلاله من الحكم الثنائي البريطاني المصري قبل بضع سنوات فقط.

قدّمت ثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1964 نموذجًا فريدًا في السودان خلال تلك الحقبة، مقارنة بكل الأحداث الثورية في المنطقة والعالم، من خلال اتباع أسلوب الإضراب العام والعصيان المدني لإسقاط الحكومة العسكرية، ففتحت الباب أمام النخبة السياسية لممارسة حياة ديمقراطية.

فحينها لم يستطع الجنرال إبراهيم عبود - أكبر رمز للحكم العسكري للسودان في ذلك الوقت - الصمود طويلًا في مواجهة الأمواج الهادرة من الجماهير الغاضبة. 

ووجد نفسه في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1964، مجبرًا على تقديم استقالته وتسليم السلطة للمدنين فيما عاد الجيش إلى ثكناته.

وتلك الثورة أرست مبادئ سياسية مواكبة للواقع الجديد، وجرى الإجماع عليها بين أهل السودان، أهمها تقديم الحل السلمي لمسألة الجنوب، بجانب السماح للمرأة بالولوج إلى ساحة العمل السياسي.

لكن هذه المكتسبات اصطدمت بضعف تنظيم الثورة المسبق، فكان من الطبيعي أن تعود الصراعات السياسية المريرة بين الأحزاب السودانية مما هيّأ الفضاء السياسي لبعض العسكريين المتطلعين لحكم البلاد في السنوات اللاحقة.

فاروق أبو عيسى هو سياسي بارز التحق بالحزب الشيوعي السوداني عام 1950 - تويتر
فاروق أبو عيسى هو سياسي بارز التحق بالحزب الشيوعي السوداني عام 1950 - تويتر

وقد سجل المحامي والسياسي فاروق أبو عيسى في كتابه "عشرة أيام هزّت السودان" يوميات تلك الثورة، التي كان بدوره أحد رموزها والمشاركين في توجيه مسارها منذ الساعات الأولى لانتشار خبر مقتل الطالب أحمد القرشي برصاص النظام.

وفاروق أبو عيسى، هو سياسي بارز التحق بالحزب الشيوعي السوداني عام 1950، وأحد قادة ثورة أكتوبر عام 1964.

كما كان الرجل زعيمًا لجبهة الهيئات، وهو من أعلن ليلة المتاريس. وقد تقلّد منصب وزير الخارجية في حكومة جعفر النميري عام 1969، ثم تولى أمانة اتحاد المحامين العرب بين العامين 1983 و2003. وتوفي في العام 2020.

أسباب ثورة أكتوبر 1964 في السودان

كان السودان في العام 1964 على موعد مع حدث فارق في تاريخ الدولة، التي حصلت على استقلالها من الحكم الثنائي البريطاني المصري قبل بضع سنوات، تصاعدت خلالها الأحداث عامًا وراء آخر.

فقد نزعت ممارسات الجنرال إبراهيم عبود بحق السودانيين الثقة الممنوحة له من النخبة السياسية التي سلّمته زمام الأمور بيديها، واستسلمت لانقلابه الأبيض وظنته المخرج الأخير لوقف الفوضى في البلاد بعد عامين من الاستقلال.

وبينما اجتاح الغضب عموم البلاد استمر الأمر حتى حانت ساعة الانفجار في الحادي والعشرين من أكتوبر، ليشهد السودان ثورة شعبية غير مسبوقة في بلاد النيلين انطلقت شرارتها من جامعة الخرطوم، مع سقوط الشهيد الأول الطالب أحمد القرشي، ثم وصل المد الثوري إلى كل أنحاء السودان ولم يتوقف حتى سقط النظام.

ويشير السفير السابق ورئيس اتحاد الطلاب في عام الثورة ربيع علي حسن، إلى ما حصل في ذلك اليوم حيث كان هناك ندوة مقامة في الجامعة وهاجمتها الشرطة فور بدئها، في واحدة من المرات النادرة التي تدخل فيها الشرطة إلى حرم الجامعة.

انطلقت شرارة ثورة أكتوبر 1964 من جامعة الخرطوم مع سقوط الشهيد الأول الطالب أحمد القرشي
انطلقت شرارة ثورة أكتوبر 1964 من جامعة الخرطوم مع سقوط الشهيد الأول الطالب أحمد القرشي

ويضيف أن الشرطة التي كانت تتفادى الدخول إلى الحرم الجامعي قبل ذلك الوقت، اصطدمت بالطلاب الموجودين في الندوة، فقامت مظاهرات عديدة على الأثر، وتحولت منطقة البريكس إلى ساحة للتظاهر ولمطاردات الشرطة، التي أُطلق في إحداها الرصاص وأصابت طلقة القرشي في مقتل.

من جانبه، المؤرخ والأكاديمي وشاهد العيان عبد الله علي إبراهيم، يتوقف عند مقتل الطالب أحمد القرشي. 

ويشير إلى أن "بعض الناس يحاولون تصوير الأمر على أنه السبب الأول والأخير لثورة أكتوبر 1964، لكن الحقيقة هي أن الثورة لا تندلع على هذا النحو".

ويذكر بأن "لحظة الحظ لا تأتي إلا بعد جهد جهيد، وكذلك لحظة الثورة لا تأتي إلا بعد جهد جهيد أيضًا".

وكان الجنرال إبراهيم عبود تولى أمور السودان بانقلاب في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1958، بعد خلافات واسعة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

وقضى أول قراراته بتعطيل العمل بالدستور وحل البرلمان وإلغاء الأحزاب وتشكيل حكومة جديدة معظمها من رجالات الجيش. ولم يكن آخرها عمليات القمع الواسعة لحرية الرأي في الصحافة والإعلام وحرية التظاهر أو تحركات التنظيمات السياسية.

وفوق ذلك، أشعل عبود المشهد في الجنوب بفرض عملية الأسلمة والتعريب قسرًا بنشر المساجد وإغلاق الكنائس والجمعيات التبشيرية.

فقوبلت الإجراءات بمقاومة شديدة تبعها ظهور حركة أنيانيا المسلحة للمرة الأولى من نوعها في البلاد.

كما فتح على نظامه جبهة غضب أخرى في الشمال، إثر تهجير أهالي مدينة حلفا ورفض تعويضهم ماديًا، بحسب ما نص عليه الاتفاق مع مصر لبناء السد العالي. 

ورزحت الخرطوم والمدن الكبرى تحت قبضة الأيدي الأمنية الباطشة للتيارات السياسية والحركة الطلابية النشطة والنقابات المهنية والعمالية الساخطة بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية.

وقد ترتبت على إثر هذه الأوضاع عدة محاولات انقلابية من داخل الجيش، استطاع عبود إفشالها بكل السبل بما فيها إعدام المشاركين بها.

وهكذا أخذت الأحداث تنزلق إلى هاوية سحيقة كانت أولى خطوات كبحها خروج الفريق عبود ونظامه من المشهد مهما يكن الثمن.

محاولة إطاحة بنظام عسكري بطريقة مدنية 

تتفق مذكرات فاروق أبو عيسى مع غيرها من الشهادات أن جنازة الطالب القرشي تحوّلت إلى تظاهرة حاشدة وجامعة لكل التيارات من عشرات الآلاف من السودانيين. 

فقد كانت لحظة ثورية ملهمة اندلعت على إثرها التظاهرات في الخرطوم وعدد من الولايات، ودارت رحى الثورة مع تأسيس جبهة الهيئات بقيادة الحزب الشيوعي، والتي أعقبها تأسيس جبهة الأحزاب بقيادة حزب الأمة. وتحركت كل جبهة بطريقتها الخاصة للمشاركة في الأحداث المتصاعدة.

وفي 24 أكتوبر، كان نظام عبود في وضع حرج حيث استمرت المظاهرات الطلابية وامتدت إلى مدن أخرى. وحاولت مجموعة من المهنيين بقيادة المحامين تقديم التماس ضد الأعمال الوحشية التي ارتكبتها حكومة عبود، لكن لم يسمح لهم.

وقبل أن يتفرق المتظاهرون أعلنوا إضرابًا عامًا، الأمر الذي شلّ الحياة تمامًا في العاصمة، وعجزت المؤسسة العسكرية عن مجاراتها، إذ تعاطف صغار الضباط مع المنتفضين ورفض الجنود الاستمرار في قمع الانتفاضة.

تولى الجنرال ابراهيم عبود أمور السودان بانقلاب في 17 نوفمبر عام 1958
تولى الجنرال ابراهيم عبود أمور السودان بانقلاب في 17 نوفمبر عام 1958

ويذكر المؤرخ والأكاديمي وشاهد العيان عبد الله علي إبراهيم، بأن "الاقتصاد السوداني كان في ذلك الوقت يقوم على العلاقة بين الميناء وبقية القطر، وهذا الشريان كانت تسيطر عليه نقابة عمال السكة الحديد المعروفة بثوريتها منذ عهد الإنكليز".

ويضيف: "كان إضرابًا سياسيًا عامًا؛ تجربة كانت نادرة جدًا في محاولة الإطاحة بنظام عسكري بطريقة مدنية بحتة".

إلى ذلك، لم تخل مذكرات فاروق أبو عيسى من الانحياز الفكري والتشاحن السياسي، رغم إعلانه في بدايتها التزام الحيادية الموضوعية والاقتصار على سرد يوميات الثورة.

فالصفحات حملت نقدًا لاذعًا لجبهة الأحزاب وتيار الحركة الإسلامية، ومن بينهم الإخوان المسلمون على وجه الخصوص، وذلك منذ اليوم الأول، باتهامهم بمساندة نظام عبود ومحاولة عرقلة المد الثوري والدعوة لجنازة محدودة للشهيد الطالب أحمد القرشي.

وفي هذا الصدد، يؤكد السياسي والأكاديمي حسن مكي، أن القول بأن "الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية كانت مساندة لنظام عبود ليس صحيحًا".

ويلفت إلى أن "الحركة الإسلامية لجأت إلى الانقلاب العسكري ضد نظام عبود في نهاية الخمسينيات، وقاد الانقلاب المراقب العام للإخوان المسلمين، الذي حُكم عليه بداية بالتأبيد ثم خفف إلى خمس سنوات سجنًا، قبل أن يطلق سراحه بعد ما يسمى بثورة أكتوبر".

كما يشير إلى أن ضباط الحركة الإسلامية تم إعدامهم في تلك المحاولة الانقلابية.

ثورة أكتوبر 1964 ونقطة اللا عودة

وُعدّ السادس والعشرون من أكتوبر نقطة اللا عودة بعدما توجّه عدد كبير من المواطنين في مظاهرة نحو قصر الحكم، فتصدى لهم عدد من الجنود وأطقلوا النار ظنًا منهم أن المتظاهرين سيقتحمون القصر. فكانت مجزرة سقط على إثرها نحو 30 شهيدًا، وجُرح العشرات.

حاول عبود استجماع قواه قدر الإمكان ساعيًا لمغازلة الشارع وتهدئته عبر بيانات وإجراءات عدة، أبرزها الدعوة لحوار وطني وتشكيل حكومة انتقالية.

وفي مساء اليوم نفسه، أعلن الفريق عبود حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ودعا القوى السياسية للقاء حول مخرج للأزمة بعد حل المجلس.

ويكشف أبو عيسى أنه في السابع والعشرين من أكتوبر عقدت جبهة الهيئات والأحزاب اجتماعًا لوضع خارطة طريق لإسقاط العسكر وتشكيل الحكومة، والتي انتهت إلى تشكيل الحكومة الوطنية وعدم مساءلة الرئيس عبود.

وفي 28 أكتوبر، خرجت الأمور تمامًا عن سيطرة الجنرال عبود وكانت أضعف لحظاته، لا سيما بعد بيان مجموعة من ضباط الجيش أطلقوا على أنفسهم اسم "الضباط الأحرار"، وأعلنوا فيه تضامنهم مع الشعب وحراكه الثوري. 

فصدر قرار من عبود باعتقالهم بزعم تحركهم بإيعاز من الرئيس المصري جمال عبد الناصر لإعادة الوحدة مع مصر. لكن الضغط الجماهيري أجبر عبود على الإفراج عنهم لاحقًا.

ويصف أبو عيسى "الضباط الأحرار" في مذكراته بأنهم "ناصروا الثورة وانتصروا لها، وكانوا سندها القوي وضمانة انتصارها".

إلى ذلك، حاول عبود تعظيم مكاسبه من المفاوضات بعد تعهد الجبهة القومية بعدم محاسبته، مقابل التضحية بالمجلس العسكري. 

فقرر في 30 أكتوبر/ تشرين الأول الدعوة إلى حوار وطني دون شروط وتشكيل حكومة جديدة يكون هو جزءًا منها. 

وتم بالفعل الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة برئاسة مساعد وزير التربية والتعليم سر الخاتم الخليفة كحل مؤقت، وهو ما لم يلق قبولًا لدى المحتجين الذين احتشدوا في الميادين وأمام السفارة الأميركية، حيث نجحوا في اختراقها وإحراق علمها.

كما هاجموا مقر السفارة المصرية وأحرقوها، بينما لم تعترف القوات المسلحة بالواقع الجديد وواصلت التدبير لإجهاض الثورة سريعًا.

المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close