الثلاثاء 23 أبريل / أبريل 2024

حنا ميخائيل.. لغز "الرحلة المشؤومة" ومسؤولية إسرائيل واليمين اللبناني

لا يزال لغز اختفاء حنا ميخائيل مفتوحًا بعد مرور نصف قرن على الواقعة في ظلّ روايات متعدّدة ومتضاربة
لا يزال لغز اختفاء حنا ميخائيل مفتوحًا بعد مرور نصف قرن على الواقعة في ظلّ روايات متعدّدة ومتضاربة
حنا ميخائيل.. لغز "الرحلة المشؤومة" ومسؤولية إسرائيل واليمين اللبناني
حنا ميخائيل.. لغز "الرحلة المشؤومة" ومسؤولية إسرائيل واليمين اللبناني
الجمعة 22 سبتمبر 2023

شارك

في ليلة صيفية من أواخر شهر يوليو/ تموز عام 1976، وبينما كانت أصوات طلقات الحرب الدائرة نهارًا قد خفتت قليلاً، خرج حنا ميخائيل الملقّب بـ"أبي عمر"، وبصحبته 9 من كوادر حركة فتح، على متن قارب مطّاطي، متوجّهين بالبحر من العاصمة بيروت ناحية طرابلس شمال لبنان، في مهمّة كبيرة.

غاب "أبو عمر" ورفاقه، من دون أن يتركوا أثرًا يقود لمصيرهم. لم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن اختطاف المثقّف والمناضل الفلسطيني، ولم يعد هو أبدًا من رحلته التي وصفها المفكّر إدوارد سعيد بـ"الرحلة المشؤومة"، معتبرًا أنّها قد سلبت الحركة الوطنية الفلسطينية أحد كوادرها الأكثر إلهامًا.

أما عائلته فقد انتظرته عامًا بعد عام، من دون أن تفقد الأمل، حيث ظلّت زوجته جيهان حلو لعقود، تتبع كلّ خيط قد يقودها لمعلومة وتفتّش في بحر الشائعات والروايات غير الموثوقة، علّها تعثر على إجابة لسؤال: "ماذا حدث لأبي عمر ورفاقه؟".

لكنّ الإجابة بقيت ضائعة، تمامًا كالمسؤولية عن الاختفاء الضائعة بين إسرائيل واليمين اللبناني، وصولاً إلى النظام السوري، ليبقى الثابت الوحيد أنّ الحرب الأهلية اللبنانية غيّبت حنا ميخائيل، ولو أنّ سيرته بقيت عصيّة على النسيان، كما ظلّت إسهاماته حيّة في الأذهان، حتى بعد مرور ما يقرب من نصف قرن على اختفائه. فهو كما يقول محبّوه غُيّب فازداد حضورًا...

تفاصيل اختفاء حنا ميخائيل

من هو حنا ميخائيل؟

ولد حنا إبراهيم ميخائيل، المعروف بـ"أبي عمر"، في مدينة رام الله، وحصل عام 1952 على منحة دراسية بكلية هارفرد في الولايات المتحدة لدراسة الكيمياء.

لكنّ الطالب المنشغل بالقضية الوطنية، سرعان ما انتقل لدراسة العلوم السياسية لينال درجة الدكتوراه بأطروحته، التي حملت اسم "السياسة والوحي: الماوردي وما بعده".

وفي الولايات المتحدة، تنقّل أبو عمر بين عدّة جامعات، محاضرًا في العلوم السياسية. لكنّ نكسة يونيو/ حزيران عام 1967 كانت حدثًا مفصليًا دفعه ليغيّر طريقه.

هكذا، عاد "أبو عمر" إلى عمّان منضويًا في صفوف العمل الوطني والميدانيّ بحركة فتح، في قرار فاجأ عائلته، كما تقول السياسية الفلسطينية حنان عشراوي، وهي ابنة خاله أيضًا.

تقول عشراوي إنّ عائلة "أبو عمر" فوجئت بقراره العودة إلى الوطن، لكنّها دعمته في قراره، وحاولت أن تساعده في مجال عمله في الثورة الفلسطينية.

من جهته، يقول الباحث في الشأن الفلسطيني صقر أبو فخر إنّ حنا ميخائيل مثل كثيرين التحقوا بالمقاومة الفلسطينية، بعدما كانوا يشغلون مناصب أكاديمية مهمّة في الولايات المتحدة، لافتًا إلى أنه جاء كمناضل وعمل في القطاع الغربي مع الشهيد كمال عدوان، ثم لاحقًا مع أبو جهاد.

من هو حنا ميخائيل

ماذا جرى بعد أحداث "أيلول الأسود"؟

لم يمضِ سوى عام واحد على عودة حنا ميخائيل حتى وقعت أحداث "أيلول الأسود"، أي الاقتتال الدامي ما بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية، الذي رأى فيه "أبو عمر" ضربة لصفوف النضال الوطني، فعمّق الخلاف الفكري بينه وبين تيار مهيمن على خطاب الحركة وفلسفتها.

ويشير العضو السابق في المجلس الثوري لحركة فتح معين الطاهر، إلى أنّه بعد "أيلول الأسود"، تبلور تيار يساري في داخل حركة فتح، حيث كان أبو عمر أحد الأساسيّين في هذا التيار، الذي صبّت ملاحظاته على انتقاد أداء قيادة الحركة خلال وجودها في الأردن، وخلال أحداث أيلول، وعلى مواقفها السياسية المختلفة.

لم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن اختطاف المثقّف والمناضل الفلسطيني، ولم يعد هو أبدًا من رحلته التي وصفها المفكّر إدوارد سعيد بـ"الرحلة المشؤومة"، معتبرًا أنّها قد سلبت الحركة الوطنية الفلسطينية أحد كوادرها الأكثر إلهامًا

وبحسب الطاهر، فإنّ هذا التيار أصبح لاحقًا ضمن اتجاهات يسارية مختلفة، حيث كان "أبو عمر" أقرب إلى الاتجاه الذي تأثّر بالثورة الفيتنامية، وكان من الداعين للآخذين بهذه التجربة.

من جهته، يؤكد الكاتب الفلسطيني عبد الفتاح القلقيلي أنّ أبو عمر بذل جهودًا مهمّة ومفيدة في تأسيس التيار الديمقراطي في الحركة، وكتب دراسة مهمّة جدًا حول الملاحظات الأولية على الثورة العربية الديمقراطية، وكان لهذه الدراسة دور مهمّ في التثقيف في هذا المهمّ.

حنا ميخائيل والكفاح المسلح

إلى بيروت، وجّهت حركة فتح قبلتها، وفي تلك السنوات، كثّف أبو عمر جهده على العمل التنظيمي والتعبوي، حيث ساهم في عملية تثقيف وتطوير الكوادر، كما عمل على تفعيل القطاع الطلابي داخل الحركة، وإعادة تأسيس النظام النسائي على أسس أكثر ديمقراطية وفاعليّة.

وفي الوقت نفسه، لم يهمل تنظيراته السياسية التي عبّر عنها في كتاباته وندواته طوال النصف الأول من السبعينيات، في وقت كان اهتمام حركة فتح بهذا الجانب النظري "ضعيفًا جدًا"، بحسب ما يقول الكاتب الفلسطيني عبد الفتاح القلقيلي.

يلفت القلقيلي إلى أنّ اهتمام الحركة كان منصبًا على الكفاح المسلح بوصفه الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وبالتالي كان التركيز على العمل العسكري، إلا أنّ حنّا ميخائيل كانت له في هذا الصدد مقولة جميلة، تقوم على أنّ الثورة أصبحت علمًا، ولذلك يجب أن يدرس الجميع علم الثورة.

وتؤكد عشراوي على هذا الجانب في سيرة "أبي عمر"، حيث تشير إلى أنّه كان يرفض مقولة أنّ القيادة هي مظاهر وامتيازات، بل كان يعتقد أنّ القيادي هو المتواضع أكثر وهو الذي يخدم أكثر ويعطي أكثر، وهو تناقض بهذه الرؤية مع بعض القيادات الفلسطينية آنذاك.

حنا ميخائيل علم الثورة

رحلة أبي عمر "الأخيرة والمشؤومة"

مع منتصف عام 1975، اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، فوجدت منظمة التحرير نفسها وقد صارت في أتون حرب ستستنزف قواها لسنوات طويلة قادمة. وبعيد اندلاع الحرب بعام واحد، كان أبو عمر على موعد مع رحلة كان من المفترض أن تستغرق بضع ساعات فحسب، لكنّها كانت رحلته الأخيرة.

يقول معين الطاهر إنّه خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حدثت معارك كبيرة في منطقة الشمال، وكان الهدف منها هو تخفيف الحصار على مخيم تل الزعتر، ولذلك ارتأت القيادة الفلسطينية ضرورة تعزيز منطقة الشمال بعدد من الكوادر المتقدّمة، فأرسلت أبو عمر ليكون مسؤولًا سياسيًا عن منطقة الشمال.

غيّبت الحرب الأهلية اللبنانية حنا ميخائيل "أبو عمر"، لكنّ سيرته بقيت عصيّة على النسيان، كما ظلّت إسهاماته حيّة في الأذهان، حتى بعد مرور ما يقرب من نصف قرن على اختفائه، فهو كما يقول محبّوه غُيّب فازداد حضورًا

تولّى ياسر عرفات وبعض قيادات الحركة ترتيب الرحلة في غرفة العمليات المركزية لحركة فتح، والإشراف على تفاصيلها، كما أرسلوا برقية مشفرة إلى أبو هاجم قائد المنطقة آنذاك لترتيب تأمين الطريق. بعدها، تلقّوا منه رسالة، لكنها غير مشفّرة، مطمئنًا إياهم.

وفي الليلة الأخيرة، مساء 20 يوليو 1976، اجتمع أبو عمر ورفاقه في منزله، وحمل كلّ منهم هوية جديدة بأسماء مستعارة، توجّهوا بعدها إلى منطقة الحمام العسكري، حيث كان من المفترض أن يتحرّكوا بزورقين مطاطيين، لكنّ أمرًا ما قد طرأ، فاستقلّوا زورقًا واحدًا، وجهازًا لاسلكيًا.

ما هي السيناريوهات المتعلقة بلغز اختفاء أبو عمر؟

كانت هذه الرحلة "الأخيرة" لأبي عمر ورفاقه التي لم تصل إلى طرابلس، ففي غرفة العمليات المركزية بحركة فتح، كانت المحاولات مستمرّة لمعرفة تفاصيل ما جرى: هل غرق القارب أم ألقي القبض على المجموعة؟ وأيّ جهة تقف خلف ما حدث؟

كانت القوات الإسرائيلية على قائمة الفاعلين المحتملين، وقد ذهب عدد من قادة الحركة إلى الاعتقاد في هذا السيناريو.

يقول الباحث في الشأن الفلسطيني صقر أبو فخر إنّ "كل ما هو معروف هو أنّ آخر برقية وصلت من المجموعة كانت عبارة واحدة: "انمسكنا" (القي القبض علينا). يقدّر ظروف هذه البرقية، قائلاً: "يبدو أنهم رأوا دورية إسرائيلية تتجه صوبهم فقالوا (انمسكنا) وقطع الاتصال".

من جهتها، تقول عشراوي إنّ معظم القيادة اقتنعت أنّ إسرائيل هي التي قصفت القارب، ولكنّها تلفت إلى "أنهم لم يقوموا بنعي أبو عمر، ولم يعلنوا عنه شهيدًا هو ورفاقه وزملاؤه في القارب، فبقي الجرح مفتوحًا وظلّت الأسئلة موجودة".

لم تفقد عائلة حنا ميخائيل الأمل وظلت تنتظره عامًا بعد عام
لم تفقد عائلة حنا ميخائيل الأمل وظلت تنتظره عامًا بعد عام

اليمين اللبناني والنظام السوري

إلا أنّ العضو السابق في المجلس الثوري لحركة فتح معين الطاهر لا يرجّح أن تكون القوات الإسرائيلية هي التي اعترضت القارب، مستندًا إلى العديد من الحالات السابقة واللاحقة، حيث جرى اعتراض العديد من القوارب الفلسطينية، وكان يجري الإعلان عنهم حتى لو بعد حين، ومحاكمتهم أيضًا".

يفتح ذلك الباب أمام نقاش سيناريوهات أخرى متعلقة بلغز اختفاء أبي عمر، فإلى جانب الجيش الإسرائيلي، توجّهت أصابع الاتهام كذلك إلى قوات اليمين اللبناني، وبالتحديد إلى تنظيم الكتائب، أحد الفصائل الضالعة في الحرب الأهلية والمعادية لحركة فتح.

لكنّ الرئيس السابق لحزب الكتائب كريم بقرادوني يسأل عن سبب استبعاد احتمال أن تكون إسرائيل من قامت بهذه العملية، وتعمّدت توجيه أصابع الاتهام إلى قوى مسيحية لبنانية. ويلفت إلى أنّ "فريقًا ضيّقًا" كان مسؤولاً عن مسألة الخطف وعمليات التبادل في الخطف في تلك الفترة، وكان يضمّه إلى الرئيس أمين الجميل، "وكلانا ليس لدينا معلومات من أي كتائبي من الشمال وغير الشمال، حول هذا الموضوع".

ولعلّ ما يجدر الإشارة إليه أنّ قائمة المتهمين المحتملين لا تقف عند حدود إسرائيل وقوات اليمين اللبناني فحسب، بل امتدّت لتشمل كذلك النظام السوري، الذي كان يناصب الحركة العداء لسنوات طويلة.


فكيف كان للنظام السوري دور في طمس حقيقة اختفاء "أبو عمر"؟ وما حقيقة الرسائل التي تمّ تداولها عن تأكيد أمين الجميل أنه على علم بـ"مقتل" حنا ميخائيل؟ وما هي أهمية الرجل في نظر من عرفه؟ إجابات على هذه الأسئلة وغيرها، تجدونها في الحلقة المرفقة من سلسلة "مختفون" التي تتناول لغز اختفاء المناضل الفلسطيني حنا ميخائيل "أبو عمر".
المصادر:
العربي

شارك

Close