الجمعة 17 مايو / مايو 2024

كيف أصبح "يوم النصر" محوريًا في مفهوم بوتين للهوية الروسية؟

كيف أصبح "يوم النصر" محوريًا في مفهوم بوتين للهوية الروسية؟

Changed

تقرير يرصد إزالة الدمار من ماريوبول استعدادًا لاحتفال روسيا بـ"يوم النصر" على النازية (الصورة: غيتي)
استخدم الكرملين لغة وصور الحرب العالمية الثانية لوصف الهجوم على جارته، ولعب انحراف خطاب النصر ومحاربة النازيين خلال العقدين الماضيين دورًا مهمًا في هذه الحرب.

أجرت موسكو، اليوم السبت، بروفة للعرض العسكري الذي تقيمه سنويًا في التاسع من مايو/ أيار الحالي لإحياء ذكرى هزيمة ألمانيا النازية عام 1945، في ما بات يُعرف باسم "يوم النصر".

ويتزامن احتفال هذا العام، مع استمرار الهجوم الروسي على أوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير/ شباط الماضي تحت مسمّى "عملية عسكرية لاجتثاث النازية، ونزع سلاح أوكرانيا". كما أن له صدى خاصًا حاليًا، حيث توقّع البعض إعلانًا دراماتيكيًا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: إما إعلان النصر في أوكرانيا، أو تعزيز الهجوم.

وقالت صحيفة "الغارديان" البريطانية، إنه خلال احتفال هذا العام، ستتذكّر بعض العائلات في جميع أنحاء روسيا أسلافهم الذين ضحوا بحياتهم في الحرب ضد النازية، أو سيشربون نخب المحاربين القلائل الذين ما زالوا على قيد الحياة، بينما سيتّخذ الآخرون نهجًا أكثر جرأة بما يتماشى مع الروايات الرسمية، على غرار تحويل كراسي أولادهم إلى ما يُشبه الدبابة، أو كتابة عبارة "إلى برلين" أو "يمكننا فعلها مجددًا" على سياراتهم.

ووفقًا للروايات الرسمية، فهذا هو بالضبط ما تفعله روسيا في أوكرانيا حاليًا، بعد أن استخدم الكرملين لغة وصور الحرب العالمية الثانية لوصف الهجوم على جارته.

"الهوس بالنصر"

وعلى الرغم من التفسيرات الأخرى التي قُدمت للهجوم على أوكرانيا، من الخوف من توسّع الناتو، وازدراء الثقافة الأوكرانية، وعزلة بوتين جراء جائحة كوفيد 19، وإحياء الأمجاد السوفييتية، إلا أن انحراف خطاب النصر ومحاربة النازيين خلال العقدين الماضيين، لعب دورًا مهمًا في هذه الحرب.

واعتبرت صحيفة "الغارديان" أنه خلال عهد بوتين الممتد على مدار عقدين من الزمن، أصبح "يوم النصر" محوريًا في مفهوم بوتين للهوية الروسية.

وذكرت الصحيفة البريطانية أنه منذ عدة سنوات، أشار النقّاد إلى "هوس النصر" بكلمة "pobedobesie"، وهي جمع مهين للكلمات الروسية التي تعني النصر والظلامية، وترجمة إنكليزية تقريبية لكلمة "Victorymania".

ومع انتشار هذا "الهوس بالنصر" عامًا بعد عام، اتخذت هذه الظاهرة أشكالًا كانت أكثر غرابة من أي وقت مضى: أقامت المدارس عروضًا يرتدي فيها الأطفال زي الجنود السوفييت؛ واستعراض بعض الأشخاص على أنهم نازيون أسرى، تلاه تصنيف معارضي روسيا الحديثة على أنهم نازيون، أو نازيون جدد، أو متواطئون مع النازيين.

في الروايات الروسية الحديثة عن المجهود الحربي السوفياتي، جرى تجاهل عدد من الوقائع على غرار اتفاقية عدم الاعتداء النازية-السوفيتية لعام 1939 وما تلاه من تقسيم لأوروبا، أو الترحيل الداخلي لمجموعات عرقية بأكملها من قبل نظام ستالين أثناء الحرب.

غموض حول "هوية النازيين"

كما أصبحت صورة "النازيين" غير واضحة بشكل متزايد، إذ تتحدّث كتب التاريخ الروسية قليلًا عن سياسات هتلر، أو صعوده إلى السلطة، أو معاداة السامية أو الهولوكوست، بينما تعتبر أن السمة الرئيسية "للنازيين" هي أنهم هاجموا الاتحاد السوفيتي. وبهذا المنطق، تحوّل كل مَن يهدد روسيا الحديثة إلى "نازي".

وتطوّر هذا الأمر تدريجيًا خلال سنوات حكم بوتين الطويلة. في عام 2000، حلّ "يوم النصر" بعد يومين فقط من تنصيب بوتين رئيسًا لأول مرة. يومها خاطب بوتين مجموعة من المحاربين القدامى، مشددًا على أهمية النصر التاريخي، قائلًا: "بفضلكم، اعتدنا أن ننتصر. وبات النصر يجري في عروقنا، وهو أمر سيساعد جيلنا في أوقات السلم، ويُساعدنا على بناء دولة قوية ومزدهرة".

ورأت "الغارديان" أن إرث النصر هذا، وحديث بوتين عنه، كان نقطة مضيئة تاريخية نادرة لسكان أصيبوا بصدمة جراء انهيار الاتحاد السوفيتي والفوضى الاقتصادية في التسعينيات.

لكن تدريجيًا، أصبح الحديث عن الماضي ذي أهمية قليلة في "يوم النصر"، وبدلًا من ذلك تحوّل أكثر نحو إبراز قوة روسيا الجديدة في عهد بوتين.

في عام 2008، تميّز موكب "يوم النصر" باستعراض أسلحة ثقيلة لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. وبعد ثلاثة أشهر من الاحتفال، غزت روسيا جورجيا.

عام 2014، زعمت آلة الدعاية الروسية أنها تحارب النازيين الفعليين في أوكرانيا، مع التركيز على أقلية من المقاتلين الذين لديهم آراء يمينية متطرفة. وصوّر التلفزيون الروسي مقتل 48 شخصًا، معظمهم من المؤيدين لروسيا، في حريق في أوديسا في مايو 2014 على أنه "مذبحة فاشية متعمدة".

النصر "الديانة الجديدة" لروسيا

وبعد ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، ظهر سيرغي أكسيونوف، "الزعيم الدمية" لشبه جزيرة القرم والذي عيّنه الكرملين، في تجمع حاشد في الساحة الحمراء، مرتديًا "شريط القديس جورج" البرتقالي والأسود على طية صدر السترة، بدلًا من الألوان الثلاثة الروسية. وتحدّث عن حماية جزيرة القرم من مجازر الفاشيين الأوكران.

و"شريط القديس جورج" هو جزء لا يتجزأ من وسام "القديس جورج"، الذي منحته الإمبراطورة الروسية كاثرين الثانية لضباطها تكريمًا لهم لانتصاراتهم في ساحات المعارك ولخدماتهم للجيش الروسي؛ وهو الرمز الأساسي المستخدم المرتبط بيوم النصر. ومنذ عام 2014 ، أصبح الرمز أكثر إثارة للجدل في بعض دول ما بعد الاتحاد السوفيتي مثل أوكرانيا ودول البلطيق، نظرًا لارتباطه بالمشاعر المؤيدة لروسيا والانفصالية.

وأضافت "الغارديان" أنه في غياب الأسس الأيديولوجية الراسخة الأخرى لنظام بوتين، أصبح الانتصار عام 1945 وتوأمه عام 2014، سبب وجود النظام. وأصبح النصر هو الديانة الجديدة لروسيا. ففي مقابلة عام 2015، انتقد وزير الثقافة آنذاك فلاديمير ميدينسكي، الذي يرأس الآن الوفد الروسي إلى مفاوضات السلام المتوقفة مع أوكرانيا، المؤرخين الذين حاولوا استخدام أدلة أرشيفية لإثبات أن بعض أساطير الحرب السوفيتية تم تزيينها أو اختراعها. وقال: "يجب أن ننظر إلى النصر بنفس طريقة القديسين في الكنيسة".

وظهر هذا المفهوم مع تكريس كاتدرائية شاسعة للقوات المسلحة خارج موسكو قبل عامين. ويجمع التصميم الداخلي للكاتدرائية، المذهل والشرير في آن واحد، بين العناصر العسكرية والدينية في سلسلة من الفسيفساء الكبيرة، فالجزء الخارجي مصنوع من المعدن المنصهر للدبابات النازية التي تمّ الاستيلاء عليها، حيث يشجع المرشدون الزوار على الشعور بأنهم يدوسون الفاشيين بأقدامهم عند دخولهم المبنى.

عام 2020، قال خادم المذبح خلال جولة في الكاتدرائية: "الروس فقط هم القادرون على التضحية بأنفسهم لإنقاذ البشرية، تمامًا كما فعل يسوع".

"الوريث الأيديولوجي للنازيين"

وبجوار الكاتدرائية، يوجد متحف جديد للحرب العالمية الثانية، حيث تحدثت مرشدة سياحية عن المآثر والتضحيات السوفيتية، بينما أحدثت عروض الرسوم الغامرة والانفجارات الصاخبة شعورًا أقرب إلى التواجد داخل لعبة كمبيوتر، من كونه تجربة تعليمية.

وقالت المرشدة: "أراد هتلر تدمير ثلثي الشعوب السلافية باستخدام معسكرات الاعتقال، وأشهر هذه المعسكرات كانت في أوشفيتز. وقرّرنا جمع الحديث عن الهولوكوست مع السلافيين، لأنه لا ينبغي لك فصل الضحايا على أساس العرق".

واعتبرت الصحيفة أنه عند هذه النقطة، تم تجريد مفهوم "النازية" في الخطاب الروسي من كل سياق باستثناء هجوم عام 1941 على الاتحاد السوفييتي.

ومع نشر التلفزيون الروسي لروايات لا نهاية لها من القصص المخيفة حول النوايا الغربية تجاه روسيا، فإن انتقال الأمر إلى أحداث اليوم ليس قفزة هائلة في الخيال بالنسبة للكثيرين.

وقال إيفان فيودوروف، عمدة مدينة ميليتوبول الأوكرانية، إنه عندما اختطفه الجنود الروس في مارس/ آذار الماضي، كان أحد الأسباب التي قدّموها هو أن قدامى المحاربين في الحرب العالمية الثانية في المدينة تعرضوا لعدم الاحترام والضرب.

وأوضحت الصحيفة أنه إذا احتفلت روسيا بـ"يوم النصر" على أنقاض مدينة ماريوبول المدمّرة، فإن الكثير من المشاهدين سيقتنعون بالفعل بأن روسيا قد "حرّرت" المدينة من "النازيين" الأوكرانيين وداعميهم الأميركيين. لكن قلة من خارج البلاد ستوافق، حتى بين أولئك الذين كانوا متعاطفين مع رسائل الكرملين قبل فبراير.

في المقابل، استجاب الأوكرانيون لاتهامات روسيا، وبدلًا من إنكار أهمية الانتصار السوفييتي، سعى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى انتزاع السيطرة على رموز السوفييت وأساطيرهم من الروس، واصفًا الكرملين اليوم بـ "الوريث الأيديولوجي للنازيين".

ورأت الصحيفة أنه من خلال عدوانه، ساعد بوتين في إيجاد "فخر وطني موحّد في أوكرانيا، التي عانت من انقسام في الهوية الوطنية والتاريخ لثلاثة عقود؛ والآن، احتشد الأوكرانيون حول علمهم تمامًا، كما حارب العديد من السوفييت حتى الموت للدفاع عن بلادهم، وإن كانت لديهم شكوك سابقة حول قادتهم".

والآن، يُشير الأوكرانيون إلى الجنود الروس باسم "راشيستي" (Rashisty) (مزيج من "الروس" و"الفاشيين"). بينما يُطلق على المتعاونين الذين يوافقون على العمل لصالح الروس اسم "Gauleiters"، وهو المصطلح الذي أُطلق على كبار المسؤولين النازيين في المناطق المحتلة خلال الحرب العالمية الثانية. كما امتلأت كييف بالملصقات التي تقارن بين عامي 1941 و2022، وهما عامان هوجمت فيهما المدينة من قبل قوة خارجية حاقدة.

ومنح زيلينسكي لقب "المدينة البطل"، وهي عادة سوفييتية، للأماكن التي قاومت بقوة  الهجوم الروسي. كما أُطلق على برنامج مساعدات أميركية اسم "إعارة-إيجار"، تيمنًا باسم برنامج المساعدة في زمن الحرب للاتحاد السوفييتي.

وقالت الصحيفة: "باختصار، أصبح الروس هم النازيين في روايتهم الخاصة"، بحسب تعبيرها.

المصادر:
العربي - ترجمات

شارك القصة

تابع القراءة
Close