وكأن الفوضوية سمة تخيم على المشهد الدولي العالمي لا سيّما في ظل غياب السلطة المركزية على مستوى تسوية النزاعات بين الفاعلين الدوليين، لذا نرى حروبًا محتدمة تتفاوت حدتها وتتوزع مشاهدها على بؤر ملتهبة متعددة في أنحاء العالم.
وتتوزع تلك المشاهد بين الحرب الروسية على أوكرانيا والتوتر المتزايد بين الصين وتايوان إلى المشاحنات الأخيرة بين كوريا الشمالية وجارتها الجنوبية، وصولاً إلى النزاع بين الصرب وكوسوفو، فضلًا عن صراعات متفرقة هنا وهناك.
تعزيز الدول لقدراتها العسكرية
لقد شكل التحرك العسكري الروسي الكبير باتجاه الأراضي الأوكرانية نقطة تحول في السياسة الدفاعية الغربية.
كانت الحرب الروسية تهديدًا مباشرًا لأمن الدول الأوروبية واستقرارها وهو ما دفعها لتعزيز قدراتها العسكرية سواء من خلال التحالفات، أو شراء الأسلحة أو تحديث الجيوش، فضلًا عن تزويد الأوكرانيين بأسلحة متطورة لمواجهة الخطر الروسي القادم إليهم.
فقد تعهدت فرنسا بزيادة ومواصلة الدعم لأوكرانيا، كذلك فعلت المملكة المتحدة، وأعلنت ألمانيا أكبر ميزانية في تاريخها لتحديث قواتها العسكرية، فيما الولايات المتحدة على وشك التصويت على مشروع إنفاق من شأنه أن يوفر مزيدًا من الدعم لأوكرانيا.
في تايوان، أعلنت حكومتها تمديد فترة الخدمة العسكرية في ظل تزايد الضغوط الصينية عليها، واختراق بكين المجال الجوي التايواني بعدد قياسي من القاذفات بقدرات نووية.
وفي مواجهة الخطر الصيني، أعلنت اليابان نشر منظومة دفاع صاروخي في جزيرة بالقرب من جزيرة تايوان، حيث كشفت النقاب عن تعزيزات عسكرية بقيمة 320 مليار دولار.
من جهته، أكّد الرئيس الكوري الجنوبي على الحاجة إلى مزيد من الاستعداد والتدريب العسكري المكثف، لا سيما بعد إخفاق جيشه في إسقاط المسيّرة الكورية الشمالية التي اخترقت المجال الجوي لسيول.
أمّا في البلقان، فبؤرة توتر قديمة تتجدد، إذ وضع الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، الجيش في حالة تأهب قصوى على خلفية التوترات في كوسوفو.
وقد اشتعل فتيل التوتر بين صربيا وكوسوفو عندما حددت بريشتينا الـ 18 من الشهر الجاري، موعدًا لإجراء انتخابات محلية في بلديات ذات غالبية صربية.
لكن أبرز حزب سياسي صربي أعلن مقاطعته لها ثم إقامة مئات الأشخاص من العرقية الصربية في كوسوفو حواجز على الطرق الرئيسة في المناطق الشمالية ذات الغالبية الصربية احتجاجًا على اعتقال شرطي سابق ما تسبب بشل حركة المرور عند معبرين حدوديين.
توقف الحماس الروسي الصيني
وفي هذا الإطار، يرى لورانس كورب مساعد وزير الدفاع الأميركي الأسبق أنه "عقب الحرب الباردة شهد العالم انتهاء الاتحاد السوفييتي"، معتبرًا أن الجميع كان يظن أن هناك فترة سلام ستسود العالم، لكن مع وصول فلاديمير بوتين حاول إعادة بناء الإمبراطورية السوفييتية، حيث "تصدى الناتو لذلك".
ويضيف في حديث لـ "العربي" من واشنطن، أنه بالمقابل فإن الصينيين يسعون إلى تطوير أسلحة نووية كبرى مثل الولايات المتحدة، وباتوا يزيدون من إنفاقهم العسكري، كما أن واشنطن بدأت بزيادة الإنفاق على الدفاع الأمر الذي دفع أيضًا باليابان لاتخاذ خطوة مماثلة كونها قلقة بشأن عدوان صيني محتمل مثل تايوان.
واستدرك قائلًا: "إضافة إلى أن كوريا الشمالية أطلقت هذا العام صواريخ ومسيرات إلى كوريا الجنوبية وتجري اختبارات نووية".
ويعتبر كورب، أن "الدافع هو عدم وجود نظام عالمي، يلبي كل التعهدات الدولية مما يدفع كثير من البلدان للتأكيد على قوتها، فمثلًا بوتين لا يريد أن يتبع النظام الدولي بغزوه لأوكرانيا، وهذا كان محل تنديد من الأمم المتحدة، كما أوقف الاتفاقيات النووية مع الولايات المتحدة (اتفاقية ستارت) وبالتالي فإن بوتين يخسر الحرب التقليدية".
#الناتو يعزز وجوده في منطقة البلطيق لـ "ردع #روسيا" pic.twitter.com/6mojpvaDrO
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) June 27, 2022
وذهب كورب للقول: "اعتقد أن الهند هي الدولة الوحيدة التي تجسد النظام الجديد، كونها اشتركت في تحالف مع الولايات المتحدة وأستراليا واليابان في مجابهة الصين، وبالمقابل هي تشتري النفط من روسيا بالرغم من أن موسكو قد انتهكت كل القواعد الدولية بغزوها لأوكرانيا".
ويرى أنّ "حرب أوكرانيا سوف يوقف حماس قادة دول مثل روسيا والصين على الاستيلاء على الدول".
"أميركا.. قوة مهيمنة"
بدوره، يشير أحمد عجاج، الباحث في العلاقات الدولية، إلى أن النظام العالمي الذي كان سائدًا عقب الحرب العالمية الثانية والذي اتفق عليه المنتصرون والذي بموجبه كانت قواعد اللعبة واضحة ومرسومة ويعرف كل طرف مكاسبه وهناك حدود لا يمكن لأحد أن يخترقها.
ويضيف عجاج في حديث لـ "العربي" من لندن، "ما نشهده حاليًا هو عودة الفوضى إلى النظام العالمي وأن الولايات المتحدة التي كانت تضمن الأمن في أوروبا وفي أماكن أخرى من العالم أصبحت غير مضطرة لأن تدافع عن تلك المناطق".
وأردف قائلًا: "وبالتالي هناك خشية من الدول في شرق آسيا وفي أوروبا من أن تقدم واشنطن مصالحها على مصالحهم كما فعلت وانسحبت من أفغانستان".
ويرى أنه في ضوء ذلك "بدأت الدول تدخل ميدان التسلح والدفاع الذاتي في ضوء المستجدات الجديدة في ظل صعود الصين ومواجهتها للهيمنة الأميركية".
كما يعتبر أنّ "الحرب الروسية الأوكرانية خرقت مبدأ السيادة والحدود، وبالتالي أصبحت هناك مخاوف كبرى في أوروبا من روسيا، وباتوا يستمعون للنصائح الأميركية منذ سنوات من أنه لا بد من زيادة نسبة التسلح، وهذا ينسحب على اليابان وعلى الهند التي لديها مشاكل مع الصين".
لكنه يشير إلى أنّ "غياب الولايات المتحدة كضامن للسلام العالمي هو الذي جعل المنظومة الدولية تتهاوى وجعل الجميع يتسابق لحماية أمنه، وهو ما يسمى السياسة الواقعية".
ويشدد على أنه في ضوء وجود نظام عالمي فوضوي تخشى الدول من غزو أراضيها وبالتالي هي باتت أمام خياران، الأول زيادة التسلح، والانضمام إلى تحالفات تضمن لها المنعة والقوة، وهذا ما يفسر محاولات انضمام دول لحلف الناتو"، وفق عجاج.
ونوه عجاج، إلى أن الجميع متفق على ضرورة تغيير مجلس الأمن وأن يكون هناك نوع من التساوي وأن تكون هناك قوة تفرض الأمن، وهذا من الناحية الأخلاقية، ولكن لا بد من توازن قوى جديدة تعيد صياغة الأمن وتغير النظام الحالي، فمثلاً لا يمكن للهند أو البرازيل فعل ذلك، وبالتالي بالنهاية ما يحدد الأمر هو توازن القوى والذي صنع الأمم المتحدة".
وينظر عجاج إلى أن "الولايات المتحدة أثبتت أنها هي القوة المهيمنة في العالم، وما سمعناه سابقًا من روسيا والصين من اضمحلال النفوذ الغربي، تبين أنه غير صائب، وتبين أن العالم بدون الولايات المتحدة يواجه أزمات كثيرة وأنه لا يمكن لأحد أن يلغيها كدولة ضامنة للسلام العالمي، وهذا ما أثبتته الحرب الأوكرانية حيث نجحت واشنطن في أن تضمن توازن بين دولة صغيرة ودولة كبرى كروسيا".
وزاد قائلًا: "حتى إن الصين بدأت تشعر بأنها لا يمكنها مواجهة الولايات المتحدة بالطريقة التي تطمح إليها روسيا، وبالتالي العام الجديد سيشهد نوعا من إعادة التوازن في العلاقات بين الدول بالشكل الذي يعيد الاتفاق مرة أخرى على كيفية تسيير شؤون بحيث تكون أميركا هي القوة المهيمنة ويستمر الأمر ولا تسقط الليبرالية كما كانوا يشيعون".
تراجع دور مجلس الأمن الدولي
من جانبه، أرجع أحمد فتحي، الصحفي المتخصص في شؤون الأمم المتحدة، ما يجري في العالم، إلى "تراجع دور مجلس الأمن ووصوله مرحلة عدم الفاعلية في الملفات الكثيرة التي تعرض عليه، لدرجة أن الرئيس بايدن طالب بإصلاح مجلس الأمن".
ولفت فتحي في حديث لـ "العربي" من نيويورك، إلى أن "حق الفيتو هو أحد الإشكاليات في طرح أي ملف داخل مجلس الأمن عندما تكون إحدى الدول الخمس طرفًا فيه مثل حالة روسيا وغزوها لأوكرانيا، بمعنى تصبح الدول معتديا وقاضيا بنفس الوقت".
ومضى فتحي يقول: "يجب ترشيد استخدام الفيتو والتوصل إلى صيغة كي يتمكن مجلس الأمن من القيام بدوره في حفظ الأمن والسلم الدوليين".
وختم قائلًا: "إن التغيير في الأمم المتحدة يكون تراكميا، ويجب أن تكون الصياغة مقبولة من أغلبية الأعضاء الذين يصوتون عليها من قبل 193، مثل اتفاقية المناخ، مما يعني أن التغير ممكن ولكنه تراكمي".