الأحد 19 مايو / مايو 2024

جاب الله مطر وعزات المقريف.. قصة اختفاء معارضين ليبيين ورحلة بحث طويلة

جاب الله مطر وعزات المقريف.. قصة اختفاء معارضين ليبيين ورحلة بحث طويلة

Changed

برنامج "مختفون" يسلط الضوء على ظروف اختفاء الضابطين الليبيين جاب الله مطر وعزات المقريف
سلكت عائلتا المقريف ومطر كل السبل المتاحة دون كشف مصير الرجلين ليظل الغموض الحبكة الأطول والمشهد الوحيد في حكاية معارضين في ليبيا.

مع نشوة الانتصار، تتزاحم إلى الأذهان الأفكار والواجبات. يعد المرء خسائره ثم يمضي لخوض معاركه الشخصية. وفي البحث عن المختفين قسرًا تصبح انتصاراتك مرهونة بفك أسر أحبائك أو أن تحظى بقبر تبقيهم على حافته. فلا سبيل أمامك سوى العبور إلى المجهول بحثًا عن آثار رجال ابتلعت رمال ليبيا أخبارهم منذ أن خُطفوا واقتيدوا إلى جلادهم. 

لكن برعم الأمل النابت من رؤية الجلاد جثة هامدة في عرض الصحراء يبعث بالحقيقة الراقدة منذ أكثر من ثلاثة عقود، لتعود عائلتا المعارضين الليبيين جاب الله حامد مطر وعزات يوسف المقريف للبحث عن الحقيقة. 

البحث عن الحقيقة

وفي حديث إلى "العربي" يشرح يوسف المقريف وهو ابن عزات المقريف، أنه قبل الثورة بأسبوع كلّمه النظام عن طريق أقارب له يقيمون في ليبيا وأخبره أن والده حي يرزق. ويقول يوسف: "قبلًا لم يكن لدينا ثقة بهم، لكنهم زرعوا بنا الأمل بأنه ربما يكون حيًا". 

ويروي يوسف أن العائلة حاولت التواصل مع كتائب الثوار بعد الثورة وكانوا يبحثون عنه ويروون عن عثورهم على أشخاص فاقدين للذاكرة.

من جهته، يشير القيادي في الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا إبراهيم صهد أنه عقب الثورة تم إبلاغ النائب العام باختفائهما وقد فتح تحقيق في الأمر وأوفد عناصر إلى مصر. 

رفيقا القذافي

لم يكن جاب الله مطر وعزات المقريف مجرد معارضين آخرين بالنسبة لمعمر القذافي بل رفيقا درب خرجا من صفوف الجيش الذي قاد القذافي إلى سدة الحكم عبر انقلابه العسكري على النظام الملكي. 

كان جاب الله مطر من بين الضباط الذين تم تسريحهم من الجيش بعد انقلاب معمر القذافي
كان جاب الله مطر من بين الضباط الذين تم تسريحهم من الجيش بعد انقلاب معمر القذافي

وبحسب محمود مطر، شقيق جاب الله مطر، فقبل فترة من الانقلاب عقدت الحكومة الليبية صفقة سلاح مع المملكة المتحدة واختير جاب الله بأمر ملكي آمرًا لسلاح الدفاع الجوي. وكان جاب الله في بريطانيا يعد العدة لتجهيز وتدريب الضباط عند حدوث الانقلاب. ثم تم وضع غالبية الضباط رهن الاعتقال وأخرج بعضهم من الجيش. 

الخروج من الجيش

كان جاب الله من بين الذين تم تسريحهم من الجيش حيث أطق سراحه بعد خمسة أشهر ثم عين ضمن البعثة الليبية الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك. وفي الوقت نفسه، كان الشاب اليافع عزات المقريف يخطو خطواته الأولى في صفوف الجيش. لكن مصيره لم يكن أفضل من مصير صاحبه. 

وبحسب القيادي في الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا محمد سعد معزب، كان عزات ضابطًا في الجيش الليبي وتم اعتقاله بعد مقتل محمد المقريف وهو أحد ضباط انقلاب سبتمبر. ويعتبر أن اعتقاله جاء لأنه قريب من محمد المقريف ودرءًا لأي خطر على النظام. 

بقي عزات عامًا في السجن وبعد خروجه تم تسريحه من الجيش فاتجه إلى الاهتمام بأعماله الخاصة. أمّا جاب الله، فقد عاد إلى ليبيا واستقال من العمل الحكومي ثم بدأ يزاول التجارة.

تأسيس الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا

لكن ازدياد قمع النظام واستبداده ما لبث أن أجبر الرجلين على مغادرة ليبيا عام 1980 ليصبح عزات أحد مؤسسي الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا. وقد انضم إليها جاب الله عام 1987. 

ومنذ ذلك الحين، جمع مسار واحد الرجلين داخل الجناح العسكري وهو مسار سيفضي إلى مصير مشترك. 

غادر عزات المقريف ليبيا عام 1980 إلى مصر
غادر عزات المقريف ليبيا عام 1980 إلى مصر

ويوضح يوسف المقريف أن مهمة والده وجاب الله كانت في الجناح العسكري في مصر لتكوين قاعدة شعبية، فكانا يتواصلان ويبنيان علاقات مع ليبيين عسكريين ومدنيين مستائين من النظام ويحثانهم على مساندة الجبهة لإسقاط النظام.  

ومن جانبه، يؤكد صهد أن الرجلين نجحا في تكوين خلايا داخل ليبيا وكانت مستعدة للتحرك والقيام بأعمال داخل البلاد، ويقول: "كانت مهمة صعبة ومحفوفة بالمخاطر، لكنها كانت ناجحة إلى حد كبير لولا تدخل الاستخبارات المصرية". 

خطة أفسدتها الاستخبارات المصرية

اقتضت الخطة أن تحرك قوات الجبهة من قواعدها في تشاد التي كانت تناصب العداء للقذافي بسبب نتيجة الحرب التي شنها على البلاد. وفي الوقت نفسه، تتحرك الخلايا التي أعدها جاب الله وعزات في الداخل الليبي لينتهي بسقوط القذافي في عملية شاملة. 

وقبل أن تدق ساعة الصفر، وقع تطور لافت غير المشهد بالكامل وأدى إلى اعتقال كثير من خلايا الداخل، فيما استُدعي عزات وجاب الله إلى التحقيق. 

استدعاء جاب الله وعزات للتحقيق

ويروي القيادي في الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا محمد سعد معزب أنه أنور شقيق عزت الصغير جاءه وأبلغه أن عزات استدعي من قبل مباحث أمن الدولة. اتصل معزب فورًا بالنقيب محمود توفيق وأخبره أن جاب الله وعزات سيقدمات بعض التفسيرات وسيعودان بعد وقت قصير. وبعد ساعات أخلي سبيل الرجلين.

في 12 مارس/ آذار 1990، حضر العقيد محمد حسن إلى منزل عزات المقريف وطلب منه أن يرافقه إلى إدارة المخابرات للحديث إلى اللواء محمد عبد السلام الذي كان وكيل جهاز المخابرات العامة في ذلك الوقت. وقد حدث أمر مماثل مع جاب الله مطر.

وبحسب ما تكشف لاحقًا، نُقل الإثنان بسيارة نصف نقل وقد غطي زجاج السيارة بالجرائد زعمًا بأن ذلك بغرض عدم معرفتهم بمكان المعسكر. 

اعتقل جاب الله مطر ورفيقه في سجن بوسليم
اعتقل جاب الله مطر في ورفيقه في سجن بوسليم

وبعد نحو 20 دقيقة وجد الرجلان نفسيهما في مطار القاهرة تنتظرهما طائرة أحمد القذافي الخاصة ونقلتهم إلى طرابلس وتحديدًا إلى سجن بوسليم. 

كانت السلطات المصرية حتى ذلك الحين تعلن العداء لنظام القذافي، لكنها كانت قد فتحت قنوات تواصل أمنية سرية قبل حوالي سنتين وباتت العلاقات بين الطرفين على وشك التطبيع التام وهو ما لم تكن قيادة الجبهة على علم به.  

ويشير صهد إلى أن أحد المسؤولين المصريين نصحه بمغادرة مصر. ويلفت يوسف ابن عزات إلى أن السلطات المصرية نفت معرفتها عن أي شيء عن والده ورفيقه لكنها حاولت بعد ذلك إيهام العائلة بأنهما موجودين. ومُنعت العائلة من الحديث عن الموضوع مع وسائل الإعلام أو أي منظمات حقوقية وإلّا حياتها ستكون في خطر. كما جرى تهديد زوجة عزت بخطف ولديها.

رسائل الحقيقة

وبحسب يوسف، ففي منتصف عام 1993، استطاع عزات وجاب الله تهريب رسائل من سجن بوسليم شرحا خلالها كيف جرى اعتقالهما. 

وفي رسائل أخرى، يتحدث عزات المقريف عن شوقه لعائلته ولزوجته وعن القسوة في سجن بوسليم.

في عام 1990 ألقي القبض على محمود شقيق جاب الله وأحد عناصر خلاياه النائمة في ليبيا. وهناك أطلعه أحد ضباط سجن بوسليم على صناديق احتوت على ما لم يكن في الحسبان. ويشير محمود في حديثه إلى "العربي" أن تلك الصناديق احتوت على كل صغيرة وكبيرة حول الرجلين وحتى تفاصيل المكالمات التي جرت في مصر. 

استطاع عزات وجاب الله تهريب رسائل من سجن بوسليم شرحا خلالها كيف جرى اعتقالهما
استطاع عزات وجاب الله تهريب رسائل من سجن بوسليم شرحا خلالها كيف جرى اعتقالهما

وبعد أن أمضى أيامًا قليلة في زنزانته الانفرادية، سمع صوتًا من زنزانة أخرى. نادى ذلك الشخص باسمه وعرف عن نفسه بأنه شقيقه جاب الله. وأخبره قصة ترحيله من مصر، حيث أحضر مع عزات المقريف الذي كان يعاني من الضغط والسكر. أغمي على عزت لدى وصوله ونُقل إلى المستشفى واختفت أخباره من ذلك اليوم. 

استمرت الأحاديث بين محمود وشقيقه لمدة 75 يومًا دون أي لقاء. ثم نقل محمود إلى ركن آخر. 

مجزرة بوسليم

ومع بداية الألفية الثالثة، هزّت ليبيا أخبار مجزرة بوسليم التي كانت قد وقعت قبل ذلك بسنوات وتحديدًا عام 1996 وهي الفترة ذاتها التي انقطعت فيها رسائل جاب الله وعزات وهو ما أثار قلق عائلتيهما على حياتهما، خاصة وأن عدد الضحايا وأسمائهم بقيت طي وثائق نظام القذافي تمامًا كما طوت أرض ليبيا ترابها فوق جثثهم. 

لكن محمود يقول إنه وبحسب شهود عيان فقبل المجزرة جاء أمر بنقل جاب الله وعزات إلى مكان مجهول ولم يعرف عنهما أي شيء حتى الآن. ومن جهته، يؤكد يوسف ابن عزات أن شخصًا يدعى عبد الحميد السايح أخذهما من السجن قبل 40 يومًا من وقوع المجزرة.

حملة دولية

وفي عام 2001، قرر نظام القذافي بدء محاكمة المعتقلين السياسيين جزء من حملته للانفتاح على الغرب. وكان محمود مطر من بين المحاكمين، وهو ما شجع هشام مطر ويوسف المقريف للقيام بحملة دولية بدأت عام 2002 للمطالبة بالكشف عن مصير والديهما. 

ويقول يوسف: "كنا نحاول الضغط على أعضاء الكونغرس لوضح ملف حقوق الإنسان في ليبيا على الطاولة. وقدمت العائلتان في عام 2010 ملفًا لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بالتعاون مع منظمة "ترايل إنترناشونال". 

ويضيف يوسف: "كان إنجازًا كبيرًا حيث لم يكن هناك ملفات كثيرة ضد نظام القذافي قي تلك الأثناء فالناس كانت خائفة". 

سقوط القذافي 

وفي عام 2011، سقط الرعب كما سقط الستار عن الكثير من الجرائم التى ارتكبها نظام القذافي. وانطلقت رحلة البحث عن المفقودين من جديد. دخل هشام إلى أرض آبائه بعد عقود من الغياب. وعرض صورة والده على رجل زعم مشاهدته في السجن. ولم تكن خيبة أمل هشام مطر بأقل من دهشة الرجل الذي قال إن المعتقل الذي رآه لا يشبه الرجل الذي في الصورة. 

ورغم ذلك، لم تتوقف المطالبات بالكشف عن مصير الرجلين. ففي عام 2014، أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تقريرًا مطولًا عن حادثة الاختطاف. وطالب فيه السلطات الليبية الجديدة ببذل جهودها للكشف عن مصير جاب الله وعزات. 

ويؤكد يوسف أنه لم يفقد الأمل رغم المجزرة وسنوات الغياب. 

سلكت عائلتا المقريف ومطر كل السبل المتاحة، لكن أيًا منها لم يكشف عن مصير الرجلين ليظل الغموض الحبكة الأطول والمشهد الوحيد في حكاية رجلين أرادا أن تنام بلادهما قريرة العين في حكم عادل لكن يد البطش طالت حياتهما فحرمت عائلتيهما حتى من الحصول على فرصة لزيارة قبريهما وقراءة الفاتحة لروح أوائل المناضلين ضد نظام العقيد. 

المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close