الإثنين 22 أبريل / أبريل 2024

نقاش حول الأمة والقومية.. عزمي بشارة: لا بديل عن العروبة

نقاش حول الأمة والقومية.. عزمي بشارة: لا بديل عن العروبة

Changed

مقابلة مع المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة ضمن برنامج "قراءة ثانية" حول مفهوم القومية العربية
يبحث المفكّر العربي الدكتور عزمي بشارة الاختلاف بين مفهومي الأمة والقومية، ليُناقش سياقه التاريخي بشكل عام، وفي العالم العربي بشكل خاص.

تتعدّد الأسئلة وتختلف حول القوميّة العربية، وحول التمييز بين ما هو تاريخي وثقافي مرتبط بالتطلع إلى حق المصير، وبالوحدة والتضامن وبحركات التحرر من الاستعمار، وبين ما هو إيديولوجي مرتبط بالأحزاب القومية الحاكمة والمعارضة.

تاريخيًا، شكّل القرن التاسع عشر عصرًا ذهبيًا لنشأة القوميات بمعناها الحديث، وتزامن ذلك مع التماهي بين مفهومي الدولة والأمة في أوروبا، وتحديدًا في إيطاليا وألمانيا وفرنسا، حيث أصبح لكلمة هُوية معنى سياسي استند في قيمه على الثقافة والتاريخ المشتركين.

أما اللغة، فيعتبر الفيلسوف الألماني جوتفريد هردر أنها الرابط الأعلى في تحديد الأمة، وبالتالي الهُوية؛ فإذا كنّا نشترك في اللغة، فإذًا نحن أمّة واحدة.

وبالفعل، لاقت هذه التنظيرات الأوروبية صداها عند العرب الساعين بدورهم للتحرّر من السيطرة العثمانية، فكانت كتابات ساطع الحصري وغيره ممّن اعتبروا أنّ العربي هو من كان لسانه عربيًا.

لكنّ الخلط بين مفهومي الأمّة والقوميّة لاقى في مراحل متأخرة نقدًا وتوضيحات عند مفكرين عرب، في طليعتهم ياسين الحافظ الذي ميّز بين الانتماء العربي الأقوامي، أي المرتبط بالنسب والعشيرة والطائفة، والانتماء العربي القومي بمعناه السياسي العلماني الحداثي.

أما المفكّر العربي الدكتور عزمي بشارة، وتأسيسًا على تجربته النضالية والفكرية، فتوصل إلى الفصل نظريًا بين الأمة والقومية، حيث اعتبر أنّ الأمة هي مجموع المواطنين الذين يشكّلون سيادة أو يطمحون لبنائها، بينما تطمح القومية إلى تأسيس الجماعة الإثنية أو الأقوامية التي ينتمي إليها الأفراد عبر التطلع إلى كيان سياسي أو دولة.

ويرى بشارة أن القومية العربية والمواطنة المتساوية بين العرب، وبين العرب وغير العرب، هي الرد على الطائفية، تزامنًا مع التمييز النظري بين القومية والأمة. ويشير إلى أهمية الديمقراطية في إكمال وتصحيح المشروع العربي، نحو اتحاد طوعي بين دول عربية ديمقراطية.

وفي حين يشدّد على أنّ "لا بديل عن العروبة"، نافيًا وجود أيّ "التباس" في العلاقة بين القومية العربية والحضارة الإسلامية، يعتبر أن الأزمة كانت في الأحزاب القومية الحاكمة التي اعتمدت على الخطاب الشعبوي، ولم تركز على المواطنة والمساواة، كما لم تحاول حتى إصلاح أنظمتها.

وإذ يتحدّث عن "يقظة مبشّرة" في انتفاضة الشباب العربي على الطائفية والعشائرية، خصوصًا في دول مثل لبنان والعراق والسودان، يتحدّث عن دور جوهري ومسؤول يجب أن يلعبه الإعلام العربي الشامل والمسؤول الذي يخاطب العرب من المحيط إلى الخليج، من أجل بناء هوية وثقافة عربية مشتركة.

لمحة تاريخية.. هل من هوية عربية؟

ويغوص الدكتور عزمي بشارة، في حديث إلى "العربي"، ضمن برنامج "قراءة ثانية" الذي يقدّمه الإعلامي محمد اليحيائي، في تحديد أسس ومفاهيم الأمة والقومية، شارحًا أبعادها وتفاصيلها.

وفيما يشير إلى إمكانية الحديث عن هُوية قومية، نظرًا لأن القومية هي جماعة هوية والناس تنتمي لها وتشعر بهذا الانتماء، يؤكد وجود اختلاف على التعريف، لافتًا إلى أنه يميل شخصيًا للاعتقاد بأنّه لكي نتحدّث عن قومية، يجب أن يكون هناك أساس لجماعة تجمع بين أفرادها ثقافة مشتركة.

ويشرح بشارة وجهة نظره قائلاً: "البعض يفترض وجود أصول مشتركة، لكن الأصح برأيي هو أن ذلك يمثّل تخيّلًا للأصل المشترك، لأنه لا يوجد أصول مشتركة، فالناس تتخيّل أنّ هناك أصلاً مشتركًا، وتتخيّل التواريخ تاريخًا مشتركًا، لكن هي عادة تواريخ مشتركة".

ويضيف: "التخيل هنا مهم، لأنه يدخل في صناعة الوعي والقناعات، ولذلك تقوم نخب سياسية وأحزاب وحركات بتسييس هذه الثقافة المشتركة لتحويل الجماعة الثقافية إلى جماعة سياسية تطمح لأن تكون كيانًا سياسيًا".

ويلفت الدكتور بشارة إلى أن هذا الأسلوب هو ظاهرة حديثة، لأن الحديث عن أن الجماعات أساس لبناء الدولة هو مفهوم جديد، فالدول في الماضي كانت السلالات الحاكمة، موضحًا أن وجود جماعة قومية ذات قيادة تعبّر عن طموحها في الاستقلال وإقامة الدولة، يُعَدّ ظاهرة حديثة جدًا.

ويعطي المفكّر العربي مثالًا على ذلك، مشيرًا إلى أن الحركات والإيديولوجيات القومية في أوروبا خلال القرن الـ19، سعت فيها النخب لتوحيد بعض البلدان تحت إطار واحد، وهذا حصل باكرًا في فرنسا وبريطانيا وهولندا، من دون أن تعطي لنفسها لقب القومية، لكنها كانت كذلك.

ويستطرد بشارة بالحديث عن الثورة الفرنسية في تلك الفترة، شارحًا أنها كانت بطابعها قومية، إذ حاولت تعميم اللغة الباريسية في كل أنحاء البلاد، إضافة إلى "فرنسة" البلاد، وصنع شعور جمهوري بالانتماء إلى القومية الفرنسية، وهذا يظهر من خلال خلق نشيد وطني جامع.

في المقابل، ظهرت في تلك الفترة، وفق بشارة، جماعات سمّت نفسها بالقومية، مثل حركات توحيد إيطاليا وألمانيا وبولندا، رغم أنها جاءت متأخرة أكثر من سابقاتها.

ويقول: "في العالم الثالث عمومًا وفي عالمنا العربي خصوصًا، بدأ الحديث عن الحركات القومية التي تسعى لإقامة دول في نهايات القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، حيث كان لها في هذه المرحلة دور تقدمي في السعي لتوحيد القبائل والعشائر والطوائف ضمن شعب واحد يسعى ليكون لديه كيان سياسي".

أبعاد إيديولوجية وسياسية

وعن تلك الفترة، يرى بشارة أن العرب لم يمثلوا قومية محددة، بل حملوا تلك التسمية فقط، حيث إن الحركات والنخب القومية التي تتلمذت في اسطنبول أو في غيرها، وشاهدت بلورة القومية التركية عن طريق جماعات "الاتحاد والترقي" و"تركيا الفتاة" وغيرها، تأثرت بها، خصوصًا أن غالبية القوميات انشقت عن الدولة العثمانية تحت شعارات قومية، مثل البلغاريين والصرب واليونان، حيث انفصلوا عن السلطنة في حروب من أجل الحصول على الاستقلال بصفتهم أممًا وقوميات.

في المقابل، رأى العرب أن العثمانيين أرادوا تتريك السلطنة من دون ترك حصة لهم، فلذلك، يشير بشارة إلى أنهم طالبوا بأن يكونوا شركاء في السلطنة بصفتهم قومية أخرى سموها بالأمة العربية، وبالتالي، أسقطوا في تلك الفترة كلمة الأمة المستخدمة في مجالات أخرى، مثل أتباع عقيدة معينة، وسموا أنفسهم بالأمة العربية، وطالبوا باللامركزية في حدود السلطنة، حيث نشطت عدة جمعيات في هذا المجال، مثل الجمعية القحطانية وجمعية العهد و"العربية الفتاة" وحزب اللامركزية العثماني، وشارك فيها عرب وأتراك، كانوا يطالبون باللامركزية وبأن يحصل العرب على إدارة ذاتية.

الأمة هي مجموع المواطنين الذين يشكّلون سيادة أو يطمحون لبنائها، بينما تطمح القومية إلى تأسيس الجماعة الإثنية أو الأقوامية التي ينتمي إليها الأفراد عبر التطلع إلى كيان سياسي أو دولة

ورغم أن القوميين الأوائل لم يستخدموا مصطلح القومية بل الأمة، حسب بشارة، إلا أنهم كانوا عروبيين ويؤمنون بوجود أمة عربية، مثل رفيق العظم وعبد الحميد الزهراوي، ويقول: "الأمة كمصطلح وتعبير عربي، كان سابقًا للقومية، حيث كان يُستخدم للحديث عن الأمة الإسلامية والأعراق، واستخدمه الرحالة المسلمون وتعاملوا مع الشعوب الأخرى به، ولكن مصطلح الأمة كان يُقصد به أتباع دين معين، كما استُخدِم في بعض الأحيان لوصف الآخرين".

لكن في الزمن الحالي، يُستخدم مصطلح الأمة بسياق مختلف لما كان عليه، وأصبح ترجمة لكلمة "nation"، التي تعني الدولة التي استقلت بعد أن كانت كيانات، وهو سبب تسمية الأمم المتحدة أي مجموعة الدول وليس القوميات أو الأمم بمفهومها القديم.

ووفق بشارة، أصبح مفهوم الأمة متعلقًا بالاستقلال أو الطموح إليه، وفي ما يخص الأمة العربية، هو طموح بتكوين أمة واحدة في دولة واحدة.

أما القومية، فيشرح بشارة أنها جماعة ثقافية، رغم أن البعض الآخر يربطها بالأصل المشترك، ويشير إلى أن الثقافة المشتركة هي الأساس، حيث أتت حركات وجماعات وإيديولوجيات قومية، وعملت على "قومنة" هذه الجماعة، بمعنى أن يكون لديها طموح بأن تصبح كيانًا سياسيًا.

الدكتور عزمي بشارة خلال المقابلة مع "العربي"
الدكتور عزمي بشارة خلال المقابلة مع "العربي"

ويفصل الدكتور بشارة بين الأمة والقومية، مشيرًا إلى أن الأمم قد تشمل عدة قوميات، ويقول: "إذا اعتبرنا أن هناك أمة كندية مثلاً، فهي تشمل إثنيات متعددة تتكلم لغات متعدّدة، والأمة البلجيكية أيضًا فيها قوميتان على الأقل، والسويسرية تضم عددًا من اللغات وليس قوميّات".

ويضيف: "يجب الفصل بين القومية، التي تمتلك أبعادًا إيديولوجية وسياسية في تحويل شعب أو جماعة ثقافية معينة إلى قومية، حيث يترافق ذلك مع بعد حركي وسياسي وحزبي، وبين الأمة التي تشكل كيانًا سياسيًا".

ويتابع قائلًا: "في بعض الحالات، تشعر الجماعات بأنها أمة نتيجة وجود حركات قومية، فترغب بالتوحّد في دولة واحدة، أي قبل أن تصبح أمّة فعلاً، هي تسمّي نفسها أمّة وتطالب بأن تكون أمة بمعنى أن تكون في دولة واحدة، نتيجة لوجود حركات قومية تنشئ هذا الانطباع وهذا الشعور المشترك".

هل يمكن الحديث عن قومية إسلامية؟

وفي محور آخر من المقابلة، يتطرق الدكتور عزمي بشارة إلى فكرة القومية الإسلامية، ويشير إلى المفكر جمال الدين الأفغاني، وغيره من المنظرين الذين حاولوا خلق حركات إصلاح للتمكن من مجاراة الغرب ومواجهة التوسع الغربي، بإنشاء حداثة في إطار إسلامي، ترتكز على العودة إلى الإسلام وتعميمه وإصلاحه.

ووفق بشارة، حاول الأفغاني التحدث عن الأمة عبر الإشارة إلى أن القومية التي تجمع المسلمين هي الإسلام، وذلك لمواجهة تحدّي "الغربنة" التي كانت جارية في المجتمع، وحاول أيضًا إقناع السلطنة العثمانية بأن تتصرف بصفتها خلافة لكل المسلمين، كما أنّه كان وحدويًا، يتنقل من بلد لبلد للإقناع بهذا الموقف.

لكن بشارة يتحدث عن آثار سلبية لهذه السياسة، ويقول: "كانت نتيجة ذلك أن الهند مثلًا التي راهن عليها كثيرًا، أصبحت اليوم مجزأة إلى ثلاثة أقسام".

من جهة أخرى، يشرح بشارة أن العالم العربي توجه في بداية القرن العشرين، وتحديدًا بعد الحرب العالمية الأولى، للحديث عن المملكات والدول العربية، بعد أن تقوّضت فكرة الخلافة الإسلامية مع نشوء تركيا الحديثة.

وقبل ذلك، حسب بشارة، عمل السلطان العثماني عبد الحميد على إحياء القومية الإسلامية، في محاولة لمواجهة الغرب ولاكتساب ولاء المسلمين، ويضيف: "قبل عبد الحميد، لم يكن هذا المصطلح المتعلّق بالأمة الإسلامية موجودًا في حكم السلطنة العثمانية".

فيما بعد، يشير بشارة إلى أن القومية فرضت نفسها بمعنى المرجعية الثقافية، وأن الدين مسألة خاصة، ولم يكن هناك مانع في تعدد الأديان في إطار القومية عينها، ويضيف: "بالطبع إذا كان هناك تجانس ديني، يكون الانتماء حينها أقوى، لكن أحيانًا لا يتوافر هذا التجانس الديني، فتعتمد القومية أكثر على اللغة والثقافة، وتتوق إلى دولة تكون هي برفقة الشعب مرجعية للحكم".

العلاقة بين القوميين العرب والدين

ويتوقف بشارة عند رأي سابق له يقول فيه: إنّ "الأمة العربية نشأت في خضم الصراع مع مفهوم الأمة الدينية ومفهوم الطائفة أو الملة العثمانية"، حيث يشرح أنه في الكثير من الحالات أو غالبيتها تاريخيًا، كان التيار القومي العربي متصالحًا جدًا مع الدين، وأوائل العروبيين كانوا بمعظمهم متدينين، إذا بدأنا بعبد الرحمن الكواكبي مرورًا برفيق العظم أو عبد الحميد زهراوي، وصولًا إلى محمد كرد علي، وهم في الحقيقة كانوا عروبيين لكن لم يكن لديهم مشكلة مع الدين، بل كان بعضهم في الأساس رجال دين.

ويقول: "لم يكن الدين مشكلة بالنسبة لهم، ولم يجدوا أزمة في التعددية الدينية، لأن الأحزاب القومية العربية اختلفت مع الحركات الشيوعية في مسألة الموقف من الدين، ولم يوافقوا على مسألة الإلحاد، لأن غالبيتهم كانوا متدينين، لكن فهمهم للدين مختلف عن فهم الحركات الدينية التي نشأت في الفترة نفسها".

ويشير إلى أنّ الحركات الدينية هي أيضًا ظاهرة حديثة، لافتًا إلى أنّها "أتت كرد فعل يتعامل مع الشريعة الإسلامية كأنها قانون وضعي يجب أن يُفرَض، وليس على أنها طريق حياة أو موجِّه، فنشأ في ما بعد خلاف عندما بدأت أدلجة الدين".

ويلفت إلى أن القومية قد تضم مسلمين ومسيحيين متدينين أو مسلمين ومسيحيين علمانيين، لأنها تركز على الثقافة والجامع المشترك، ولاحقًا إذا توفّقت في إقامة دول حقيقية حديثة تكون المواطنة هي الجامع.

العلاقة بين القومية والليبرالية

في إطار آخر، يتطرق بشارة إلى العلاقة بين القومية والليبرالية، فيوضح أن الأخيرة تركز عمومًا على الفرد وليس على الجماعة، ملخصًا مفهومها بالقول: "هي تعتبر أن الدولة شرّ لا بد منه، ويجب محاولة تحديد صلاحيتها قدر الإمكان والتركيز على الحريات الفردية". في المقابل، تركّز القومية عمومًا، وفق بشارة، على الجماعة والشعب والثقافة المشتركة وضرورة بناء الدولة والأخلاقيات العامة وليس الفرد.

ويوضح أنه في كل التيارات القومية كان هناك ليبراليون، رغم اختلاف التطور التاريخي للمفهومين، لكن دائمًا كان هنالك ليبراليون قوميون وقوميون ليبراليون، إلا أنّ الحركة الليبرالية بحدّ ذاتها لا تهتم بالقومية، بل تستند إلى تحديد صلاحيات الدولة وحرية الفرد، في حين أنّ القومية تهتمّ ببناء الدول والحقوق الجماعية وليس الحقوق الفردية". لكنه يلفت في الوقت إلى أنّ الأحزاب القومية حكمت في الكثير من الحالات، ونشأت دول ديمقراطية ودول ليبرالية.

عربيًا، يرى بشارة أنه عندما تحزّبت القومية، بمعنى أنّها تجمّعت في أحزاب إيديولوجية، ألغت الحقوق الفردية ولم تضعها أساسًا بل همشتها بحجة أن القضية القومية هي الركيزة والأساس، فنشأ حينها موقف ليبرالي مناهض لممارسة الأحزاب القومية في الحكم.

الدكتور عزمي بشارة خلال المقابلة مع "العربي"
الدكتور عزمي بشارة خلال المقابلة مع "العربي"

ويقول: "هذا أساس التوتر بين الطرفين؛ لكن تاريخيًا، كان الليبراليون المصريون وطنيّين يؤمنون بالقومية المصرية، والليبراليون العرب كانوا قوميّين، قبل أن تحكم الأحزاب القومية وتسيطر عليها الجيوش وتصبح أنظمة عسكرية".

ويلاحظ بشارة أنّ "الكثير من الأشخاص يدّعون أنهم ليبراليون، لكنهم ليسوا كذلك، أي أنهم يعتبرون أن الليبرالية نمط حياة، إلا أنهم لا يدخلون في قضايا فكرية ولديهم معايير مزدوجة عند الحديث عن حقوق الإنسان وحقوق المواطن، ففي بعض الحالات يصمتون عنها وفي حالات أخرى يؤكدون عليها"، ويضيف: "يعيشون وفق نمط الحياة المتحرر، لكن في الحقيقية هؤلاء ليسوا ليبراليين".

لماذا يُتّهَم القوميون بأنهم علمانيون؟

وعن التهم الموجّهة للقوميين بأنهم علمانيون، فيشير بشارة إلى أن هذه الاتهامات نابعة من كون هذه الفكرة تنطلق من الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة، أو أنها لا تتبع حكم الشريعة، إضافة لكون هذه الحركات تضم مسلمين ومسيحيين، وليس فقط مسلمين.

وإذ يلفت إلى أنّ غالبية المؤسّسين هم عرب سُنّة، لكن في حالة العراق، يشير إلى أنّ حزب البعث أسّسه الشيعة، قبل أن يتسنّن، يخلص إلى أنّ قضية الطائفة لم تكن مهمّة للقوميين العرب لأنّهم كانوا علمانيين، بمعنى أنّهم لم يرغبوا بحكم الدولة من منطلق طائفي.

تعتبر الليبرالية أن الدولة شرّ لا بد منه، ويجب محاولة تحديد صلاحيتها قدر الإمكان والتركيز على الحريات الفردية، فيما تركّز القومية على الجماعة والشعب والثقافة المشتركة وضرورة بناء الدولة والأخلاقيات العامة

ورغم هذه الاتهامات، يؤكد بشارة أن هؤلاء كانوا متصالحين مع الإسلام الشعبي والرسمي، وحتى في بعض الحالات، كانوا في الوسط مع الحركات الإسلامية، حيث وضعوا في الكثير من الدول بندًا في الدستور يكون عادة في المرتبة الثانية، وينص على أن الدولة تُحكم بأولوية الشريعة، أو أن تكون هذه الأخيرة مصدر التشريع.

لكنّه يعتبر أنه مهما حصل، يجب أن تكون الدولة مرجعًا لذاتها وأن تكون هي المشرّع، فلا يوجد مفهوم للسيادة إن لم تكن الدولة هي التي تشرّع القوانين. ووفق بشارة، لا توجد دولة في العالم لا تحتكر التشريع والعنف، أما في حال اعتبار عكس ذلك، فسببه وجود جهة معيّنة تريد فرض نفسها بطابع ديني.

ويتابع قائلًا: "حاجات الدولة الحديثة تتطلب تشريعًا، ويُمكن اللجوء إلى مقاصد الشرعية على سبيل الاهتداء كما حصل في الحالة البريطانية أو غيرها، لكن التشريع بحد ذاته هو من صلاحيات الدولة". ويعطي دولة السلطنة العثمانية مثالًا، حيث بدأت الخلافة عام 1518 بإنشاء التشريعات عبر وضع قوانين مدنية لكنها تبدأ بديباجة دينية، مشددًا على أن التشريع وسن القوانين هو من مهمة الدولة فقط.

وبالعودة إلى الربط بين القوميين والعلمانيين، يشير بشارة إلى أن القوميين عمومًا هم علمانيون بالمعنى الواسع للكلمة، حيث يرفضون أن تكون الطائفة هي المرجعية، ويعتبرون أن الدولة هي التي تشرّع وتصدر القوانين وحدها وليس الشريعة.

ووفق بشارة، يرى القوميون أن الجماعة الإثنية تستحق أن تنهض حضاريًا وأن يكون لها لغة معيارية ضمن دولة لها ثقافتها ورموزها، يمكن أن تكون في إطارها كل التيارات اليسارية واليمينية المتدينة وغير المتدينة.

ويعرب عن اعتقاده بأن الصراع السياسي بين القومية والتوجهات الفكرية الأخرى شاخ وأصبح متقادمًا، ويقول: "المنطقة تنتظرها أمور أخرى غير هذه المسألة، ونحن الآن نصارع على استقرار الدول وحقوق المواطن والديمقراطية".

ويضيف: "الكثير من الأمور التي كانت تُعتبَر شعارات مؤثرة قبل عشرة أعوام فقط أصبحت متقادمة وهُمّشت، لأنّه ثبت أنّها ليست جزءًا من الواقع الحديث".

التعددية داخل الدولة

وفي محور آخر من حلقة "قراءة ثانية"، يتوقف المفكر العربي عزمي بشارة عند مبدأ القومية عند العرب، مشيرًا إلى أنّ "العرب قومية ثقافية تتوق إلى التحول إلى أمة". ويشرح فكرته بالإشارة إلى أن كل قومية تصبح سياسية إذا أضفنا بعدًا سياسيًا على الجماعة الثقافية التي تمتلك أصلًا مشتركًا، فالبعد السياسي هو تطلع لأن تصبح الأمة ذات سيادة في دولة.

ومن هذا المنطلق، لا يُمكن اعتبار الأمة العربية ذات سيادة، ومن هنا يأتي تسمية القومية العربية أمة، للتعبير عن الطموح بأن تتحول إلى أمة ذات سيادة، وفق ما يقول بشارة.

واستنادًا إلى موقف سابق له أن "العروبة ضرورة لكل بلد عربي على حدة، لوحدة الدولة القطرية ولإمكانية التعددية الديمقراطية"، يشير بشارة إلى أنه لو لم يكن هناك دولة عربية واحدة للجميع، إلا أن العروبة والهُوية العربية لا تزال مهمة داخل الدولة القطرية.

ويضيف: "تُعتبر هذه الهُوية مهمة داخل الدولة العربية بالنسبة لحكام الدول القطرية، لأنها تحافظ على تماسك وتجانس جماعة الأغلبية، وتمنع الشروخ، وعلى الأقلّ هي أحد البدائل المهمة لحالة التشققات الاجتماعية التي قد تكون جهوية أو قبلية أو طائفية".

ويتابع قائلًا: "هذه الشروخ ليست طائفية دائمًا، فليبيا مثلاً يعيش فيها طائفة واحدة، واليمن رغم وجود طوائف فيه، إلا أنّ التطييف ظاهرة حديثة مصطنعة برأيي، والقبائل هي التي تحكم المشهد. في المقابل، تبرز دول أخرى مثل سوريا والعراق التي تضم غالبية عربية وأقلية كردية وقومية، وبالتالي إن لم تحافظ الأكثرية على هويتها الجامعة، تنقسم إلى طوائف".

القومية العربية تشمل الجميع، بمختلف دياناتهم لأن الحضارة والثقافة مشتركة، وأي محاولة لفرض قوانين لا تأخذ في الاعتبار المواطنة المتساوية، تضرب النسيج القومي لأي بلد من البلدان

وبالنسبة للديمقراطية، يرى بشارة أن الشروخ الاجتماعية هي أحد العوائق الرئيسية أمام هذا المفهوم الذي ينتهي إذا تحولت التعددية إلى حرب أهلية بين الطوائف. ويضيف: "إذا تحوّلت التعددية السياسية إلى تنظيمات قبلية، تفشل هذه الديمقراطية".

ويتابع قائلًا: "التعددية الاجتماعية من ديانات وطوائف وقبائل وعشائر لست ضدها، لكن إذا سُيّست فهي تضرب الديمقراطية وتضع البلاد في حرب أهلية لتقاسم الدولة". ويعتبر أن قواعد اللعبة الديمقراطية من دون تماسك اجتماعي لا تفيد بأي شيء، فأي دولة تحتاج إلى هذا التماسك تحت سقف هوية قومية أو وطنية.

وعن التعددية السياسية، يشرح قائلًا: "الاختلاف في هذه الحالة يكون على الصالح العام، في حين أن التعددية الاجتماعية لا تتمحور حول الصالح العام بل حول مصالح الأفراد والطوائف والقبائل، ما يوصلنا إلى حالة احتراب وتقاسم للدولة، لأن التنافس الطبيعي بحاجة إلى قاسم مشترك ومواطنة قوية وهوية قومية، فالتماسك والوحدة شرط التنوع". من هنا، يشدد بشارة على ألا بديل عن العروبة، لأن الدولة المتماسكة تحتاج إلى هُوية الأغلبية.

الإيديولوجيا والقومية

في قسم آخر من المقابلة، يشرح المفكّر العربي عبارة كتبها في مقدمة ترجمته لكتاب "الجماعات المتخيلة" لبنديكت أندرسون، حيث قال: "القومية في العالم نشأت مع العلمنة وانحسار عملية التديّن"، حيث يشير إلى أن القوميات في العالم عمومًا نشأت في مرحلة العلمنة، بمعنى أن المجال الديني أصبح واضحًا، وليس منخرطًا في كل مفاصل المجتمع.

ويقول: "فكرة نشوء الفرد والتعاقد الاجتماعي بين الأشخاص لتشكيل الدولة، انطلقت من أن هناك ثقافة مشتركة بينهم وليس بالضرورة أن تكون الدين".

ويضيف: "في بعض الحالات تطابق الدين مع القومية، مثل الحالة البولندية التي اشتهرت في القرن الـ19، والتي اعتبرت نموذجًا، حيث تطابق الدين الكاثوليكي مع القومية البولندية، في مواجهة المحتلين الروس الأرثوذكسيين والألمان البروتستانتيين، وبالتالي، يلعب الدين أحيانًا دورًا في تكوين الشعور القومي".

وفي الحالة العربية، وفق بشارة، تمكن الإسلام في دول شمال إفريقيا من أن يكون مكونًا للهوية العربية التي صارعت الاحتلال الفرنسي. ومن هنا، يمكن القول إن الدين يدخل أحيانًا كعنصر مكون، لكن المشكلة تكمن في أن الحركات الدينية لا تقبل به مكوّنًا فقط، بل تريده منطلقًا للأمة.

ويتابع بشارة مفصلًا الحالة العربية ويقول: "المشكلة الرئيسية في عالمنا هي طبيعة النظم التي تبنت الأيديولوجيا القومية، إذ حصل التباس كبير في هذا السياق. ففي الستينيات كانت أيديولوجيا القومية العربية متغلبة على كل شيء آخر، ولا سيما مع نشوء أحزاب البعث والقوميين العرب والتيار الناصري، وكان هناك مد حقيقي وكاسح شعبيًا، ولو جرت انتخابات لحصلت هذه التيارات على أغلبية الأصوات، لكن لم تكن هذه الأنظمة تجري انتخابات ولم تهتم بحقوق المواطن، بل اعتمدت على الخطاب الشعبوي المتلازم مع القطاع العام الذي يحتكر الاقتصاد ويشكل مصدر قوة للدولة، واعتقدت أنه كافٍ".

حرب عام 1967 وانحسار التيارات القومية

لكن بشارة يلفت إلى أنّه مع هزيمة حرب عام 1967، انحسرت هذه التيارات وصعدت الحركات الدينية بعد منتصف السبعينيات وتحديدًا بعد الثورة الإيرانية، بدأ يظهر البديل الأصولي الديني للتيار القومي، لكن بشارة يشدد على أن الأزمة كانت في الأحزاب القومية الحاكمة التي لم تعتمد على المواطنة ولم تحاول حتى إصلاح أنظمتها، فشكّلت هزيمة ذلك العام صدمة حضارية.

ويضيف: "في بداية حكم الأحزاب القومية، شهدت بعض البلدان نهوضًا في القطاع العام تزامنًا مع إصلاح زراعي ووجود تعليم مجاني، لكن في ما بعد، بدأ هذا النموذج يشيخ مع انتشار البيروقراطية وبدء الجمود الاقتصادي، توازيًا مع رفض فكرة المزج الفعلي بين القطاعين العام والخاص".

ويتابع قائلًا: "تلك الأنظمة لم تحاول إشراك الشعب في السلطة عبر شكل من أشكال الديمقراطية على الأقلّ، ولم تركّز على حقوق المواطن والإنسان، وفي بعض الحالات حكمت أحزاب غير ناضجة وفي بعضها كان شباب صغار من حكموا، كالمثل الليبي، حيث حكم العقيد معمر القذافي وهو في العشرينيات من عمره، وظهر نوع من المغامرة في سلوكه السياسي. ورغم أن أحزاب البعث كانت أكثر مسؤولية، إلا أنها وقعت في الأزمات عينها".

"أدلجة" الدين والقومية

ويعود المفكر العربي إلى النموذج البولندي، إذ يشير إلى أن الكنيسة في تلك البلاد لعبت دورًا كبيرًا في الصراع مع الشيوعية، وتوافقت مع حركة "سوليدار" بوجه حركة "تضامن"، كما أنها لعبت دورًا أساسيًا في ما يسمى بـ"محادثات المائدة المستديرة" مع النظام الشيوعي، لكن هذه المساهمة بقيت على مستوى الهُوية وليس الأيديولوجيا، لأنه عندما حاولت الكنيسة أن تفرض بعض الأمور الدينية في الحكم، مثل التحكم بحق الإجهاض وحقوق المرأة، انتفض المجتمع.

ويوضح أن البولنديين قبلوا بالكاثوليكية باعتبارها جزءًا من الهُوية، لكنهم لم يقبلوا بأن تحكم أو أن تشارك في الحكم، أو أن تقيّد حريات الناس الذين دفعوا الكثير من أجلها في صراعهم مع الشيوعية. 

انطلاقًا من هذا المثل، يشير المفكر العربي إلى أن اللغة العربية هي لغة القرآن، والعرب بمعظمهم مسلمين وغالبيتهم متدينين بأشكال مختلفة، وبالتالي، لم يكن هناك أزمة بين الدين والقومية في يوم من الأيام، ففي شمال إفريقيا وفي دول المغرب والجزائر وتونس، هناك تطابق بين القومية والإسلام، لأنه لا يوجد في هذه البلدان طوائف أخرى.

من هنا، يُمكن القول وفق بشارة: إن الأزمة كانت في تسييس الدين، وإدخال أيديولوجيا دينية سياسية إلى الحكم، والممارسات القمعية في وجه المعارضة، وينفي وجود أيّ التباس في العلاقة بين القومية العربية والإسلام.

ويقول: "القومية العربية تشمل الجميع، بمختلف دياناتهم لأن الحضارة والثقافة مشتركة، علمًا أنّ غالبية المسيحيين العرب كانوا يعتبرون أنفسهم جزءًا من الحضارة الإسلامية، لكن إذا حاولت أن تفرض في بلاد الشام أحكام أهل الذمة على المسيحيين مثلًا، فستخسرهم مباشرة وسيتفاعلون عندها مع الأنظمة الأخرى".

وفيما ينبّه إلى أن أي محاولة لفرض قوانين لا تأخذ في الاعتبار المواطنة المتساوية، تضرب النسيج القومي لأيّ بلد من البلدان، يشدد على أن أدلجة الدين هي ممارسة خطيرة، وكذلك أدلجة القومية، بمعنى تحويل القومية إلى أيديولوجيا حاكمة لكل شيء. فحسب بشارة، عندما يبدأ تيار قومي باعتبار مبدئه حاكمًا لكل شيء ويقسّم الناس وفق هذا المفهوم إلى أخيار أو أشرار، فهو أمر سيئ يُمكن أن يدمّر الدول.

القومية والعلمانية

في محور آخر من الحوار ضمن برنامج "قراءة ثانية"، يشرح المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة بأن مشكلة بعض الأحزاب القومية أنها أسست لدين علماني بدل التدين السياسي، أي أصبح التقديس يشمل معاني دنيوية، وأصبح المس بالحاكم كالمس بالذات الإلهية، أو ربما أهم، توازيًا مع تقديس الحزب وإعادة كتابة التاريخ، مشيرة إلى أن هذه الظواهر دفعت المواطنين إلى النفور والشعور بأن هناك من يريد المس بدينهم.

ويقول: "هذه الظاهرة شبيهة بأدلجة الدين، وتحويله من إيمان إلى أيديولوجيا تهمّش الأخلاق، فيصبح القتل والكذب والسرقة مسموحًا بها انطلاقًا من الحصانة الإيمانية، والأمر نفسه يسري على أدلجة القومية، حيث تصبح كل الجرائم مبررة تحت حجج المقدسات الدنيوية هذه المرّة". ويضيف: "قبل أن ينشأ تحدي الحركات الدينية، عانت الأحزاب القومية الحاكمة من مشاكل من هذا النوع أصلاً".

وردًا على سؤال حول اعتماد الأحزاب القومية مبدأ التقديس لمواجهة التيارات الدينية، يجيب بشارة بالقول: "الأحزاب القومية استخدمت الشعارات، وعندما فشلت وجدت أنه من الصعب طرح ديانات بديلة للمواطنين. وبالتالي، اعتمدت بعض التيارات القومية على استخدام الدين لتقوية نفوذها".

ويلفت إلى أنّه "في نهاية فترة حكم صدام حسين، حينما فشلت إيديولوجيته الأولى وبدأ الحصار الغربي عليه، قام بما عُرف بالحملة الإيمانية، وبدأ ببناء المساجد وادعى أنه من نسل الإمام الحسين". إلا أنّه يشدّد على أن استخدام الدين في الحكم أو تقديس الأشخاص هو ممارسة خاطئة.

الإعلام حقل اختبار لمدى عروبة الناس، فهو يستخدم لغة معيارية عربية ويتحدث العربية ويوحّد السوق الإعلامي العربي، وبالتالي، عندما يخاطب العرب من المحيط إلى الخليج، فهو بذلك يسهم ببناء هوية وثقافة عربية

ويضيف: "الإنسان العادي لديه بطبيعته ميل للانتماء والجمال وأن يكون محبوبًا، وينفر من العنف، وإضافة إلى ذلك، يميل إلى ما هو مقدّس. من هنا، يبحث عن أشياء نبيلة وسامية لتقديسها. لكن بعض النخب السياسية تستغل هذا الشعور الغريزي، وتبدأ باستخدام سيكولوجيا الجماهير في التعبئة للديانات الدنيوية أو للحركات المتطرفة. وبالتالي، رغم كون مفهوم التقديس بشكل عام إيجابيًا ويُمكن أن يُخرج أشياء جميلة وأن يكون مصدرًا للإبداع وللتضحية من أجل الوطن والقيم الإنسانية، إلا أنه قد يُستغل لمآرب أخرى".

وبما يخص تقديس الأشخاص، يعتبر بشارة أن الشعبية الجارفة أمر يحصل دائمًا بسبب كاريزما شخص معين، لكن تقديس الفرد أمر سيئ، إذ يجعل الفرد يبدأ بتبرير الأخطاء ويشل ذهنه عن التفكير.

من هنا، يؤكد بشارة على أن مشاركة الجماهير في العملية السياسية يجب أن تكون مبنية على صفاء ذهن الفرد، ليتمكن من التفكير بعقلانية، بعيدًا عن التعبئة والتحريض، ولكي لا يُساق كالقطيع نحو غرض معين.

الثورات العربية واليقظة المبشّرة

في كتابه المُعنون "المسألة العربية"، يقول بشارة: "هناك مراكز بحوث في إسرائيل مهمتها تقسيم العالم العربي طائفيًا". ويشرح خلال المقابلة هذا الموضوع، حيث يشير إلى أن إسرائيل تتعامل مع العرب كمجموعة طوائف وعشائر، وليس كشعب عربي.

وإذ يلفت إلى أن إسرائيل بنت مؤسسات وأنشأت قومية لها لغة عبرية، يؤكد أنها تحاول قدر الإمكان إفشال خطط العرب في بناء قومية واحدة ذات أغلبية عربية في المنطقة، لأن ذلك يشكّل خطرًا عليها، وبالتالي، فأهمية تشتيت العرب تكمن في تبرير وجود إسرائيل على أساس ديني طائفي.

وعن المواجهة، يعتبر بشارة أنه لا توجد وصفات سحرية، فالأمر الرئيسي في هذه الحالة هو القبول وتشرّب فكرة أننا أمة واحدة وشعب واحد على أساس الثقافة المشتركة، ومن ثم العمل على بناء دول ومؤسسات مبنية على أساس المساواة والمواطنة وليس الطوائف.

ويقول: "كنا في حالة نهوض في بداية القرن الماضي، ثم في الخمسينيات والستينيات أثناء بناء الدول الحالية التي شاخت وهرمت ونخرها الفساد نتيجة للواسطة والمحسوبية والطائفية. وبالتالي فإنّ مسألة النهوض مجددًا هي قضية تحدٍ، وأن توجد نخب تقبل بذلك وتقود الناس بهذا الاتجاه".

ويلفت في هذا السياق إلى ما يصفه بـ"اليقظة المبشّرة" التي حدثت عام 2011، في إشارة إلى انتفاضة الشباب العربي في بلدان مثل السودان والعراق ولبنان على الطائفية والعشائرية. ويقول: "انتفاضة الشعب اللبناني عام 2019 التي لن تكون الأخيرة لأن الزعامات والأزمات هي نفسها ولم تتغير، وانتفاضة الشعب العراقي كذلك، كانتا بشكل واضح ضد الطائفية".

ويتابع قائلًا: "الشعوب العربية لا تقبل بأن تكون تابعة لهذا الزعيم الطائفي أو ذاك، بل تريد أن تُعامل وفق مبدأ المواطنة. إنها خميرة الحرية التي لا تزول بل تتفاعل من جديد في المستقبل".

دور الإعلام في بناء الثقافة العربية

وفي المحور الأخير من المقابلة، يعلّق بشارة على عبارة سابقة له تقول: "الإعلام حقل اختبار لمدى عروبة الناس". من هنا، يشير إلى أن الإعلام يستخدم لغة معيارية عربية ويتحدث العربية ويوحّد السوق الإعلامي العربي، وبالتالي، عندما يقوم بمخاطبة العرب من المحيط إلى الخليج، فهو بذلك يسهم ببناء هوية وثقافة عربية.

وإذ يلفت إلى وجود إعلام محلي ضروري على المستوى الداخلي، إلا أنه لا يُسهم ببناء ثقافة عربية، يوضح بشارة أن "الإعلام الذي يخاطب العرب من المحيط إلى الخليج هو المسؤول عن ذلك، فهو يوحّد الخبر والاهتمامات والهموم، فمثلًا في لبنان يُتابعون أخبار الجزائر، وفي ثورة مصر تمسمرت الجماهير العربية أمام شاشات التلفزيون لمدة 17 يومًا لمشاهدة ما يحصل في ميدان التحرير، وهذا يدل على وجود هُوية عربية".

وفيما يسأل: "لماذا يهتم الناس بقضية فلسطين؟"، يجيب: "ببساطة لأنها قضية العرب الأولى بمختلف بلدانهم، إذا كانوا عربًا. هي ليست قضية السوري الأولى أو اللبناني الأولى أو الأردني الأولى، ولكن هي قضية العرب بما هم عرب، أي إذا شعروا أنهم عرب".

ويضيف: "وسائل الإعلام العربية والمتحدثة بهذه اللغة، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي إلى حدّ ما، رغم دورها المدمّر، تنقل خطابها باللغة العربية لمن يفهمون العربية من المحيط إلى الخليج. ورغم أن هذه الوسائل لعبت دورًا هدّامًا في نشر الجهل والشائعات، إلا أن الإعلام المسؤول الذي يبني خبره على الحقيقة المدققة، هو مقياس أساسي للهوية العربية، من حيث وجوده وقوته".

ويخلص إلى أنّ "الإعلام العربي المسؤول الشامل الموجّه للقارئ من المحيط إلى الخليج، يجب أن يتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي بمسؤولية، بمعنى أن يستخدمها هو لا أن تستخدمه هي، وأن يتعامل معها كوسيلة ليوصل رسالته". ويلفت إلى أنّ الإعلام المسمى بالتقليدي، والذي ليس بالضرورة أن يكون كذلك، يمكن أن يكون ثوريًا ويستخدم وسائل التواصل لينشر رسالته ولغته في كل مكان، وليس العكس.

المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close