الخميس 2 مايو / مايو 2024

عقد من المنفى داخل وطنهم.. جرح النازحين في العراق لم يندمل بعد

عقد من المنفى داخل وطنهم.. جرح النازحين في العراق لم يندمل بعد

Changed

"عين المكان" يسلط الضوء على معاناة أهالي جرف الصخر النازحين في العراق (الصورة: غيتي – أرشيف)
تشتت نحو 180 ألف مواطن من أهالي جرف الصخر بمخيمات لا تتوافر فيها أدنى مقومات العيش حيث استقرت الميليشيات المسلحة في أرضهم بعد هزيمة تنظيم "الدولة".

هُزم تنظيم "الدولة" في جرف الصخر في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2014، لكن نتيجة المعارك الضارية ضد الجيش النظامي المدعوم من التحالف الدولي والميليشيات المسلحة كانت فادحة.

تسببت هذه المعارك في تشتيت نحو 180 ألف مواطن من أهالي جرف الصخر التي تبعد نحو 60 كيلومترًا غرب بغداد. وكان هؤلاء ضمن أكثر من 5 ملايين نازح عراقي، بحسب بيانات وزارة الهجرة العراقية.

وجاء هؤلاء النازحون من محافظات بابل والأنبار ونينوى وديالي وصلاح الدين وغيرها إلى المجهول، مخلفين أزمة إنسانية وسياسية امتدت لعقد من الزمان ولا يُعلم نهايتها حتى الآن.

ويقول علي جهانكير المتحدث الرسمي باسم وزارة الهجرة العراقية: إنّ تنظيم "الدولة" قد استفاد من الجغرافيا الموجودة في منطقة جرف الصخر، وتمكن من خلالها في تثبيت أقدامه فيها.

لذلك، يرى جهانكير في حديثه إلى "العربي" أنّ صعوبة تطهير تنظيم "الدولة" من تلك المنطقة هو ما أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا من أهالي المنطقة.

حلول "سياسية" للأزمة

الحرب الشرسة ومرور السنوات غيروا جزءًا من الخارطة الديموغرافية للعراق، فالميليشيات المسلحة بقدها وقديدها حلّت محل تنظيم "الدولة" في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وكركوك وديالى.

ورغم تصاعد مطالبات سكان هذه المحافظات بإخراجهم واستبدالهم بقوات النظام، لكن لا صوت يُسمع إلا صوت السلاح.

وأصبحت الكلمة في تلك المناطق للحشد الشعبي والميليشيات الأخرى كـ"حزب الله" و"عصائب أهل الحق" و"كتائب سيد الشهداء" و"حركة النجباء" و"كتائب الإمام عليّ" الذين سيطروا على المدن، فيما دفع أهالي جرف الصخر الثمن غاليًا حيث منعوا من العودة إلى الديار.

أصبحت الكلمة في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وكركوك وديالى للحشد الشعبي والميليشيات الأخرى بعد خروج تنظيم الدولة.
أصبحت الكلمة في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وكركوك وديالى للحشد الشعبي والميليشيات الأخرى بعد خروج تنظيم الدولة.

ويرى الخبير الأمني أحمد الشريفي أن الحلول لإنهاء معاناة النازحين العراقيين في تلك المناطق هي "سياسية"، لكنه يبين ضرورة التمييز بين الحشد الشعبي والفصائل العراقية الأخرى باعتبار أن هذه الأخيرة "لديها إيديولوجيا وامتدادات بمؤثرات إقليمية". 

ويوضح الشريفي في حديثه لـ"العربي" أن الدور المنوط للحشد الشعبي قد انحسر بعد انحسار العمليات العسكرية، لكن بقيت تلك المناطق تحت إدارة "الفصائل الولائية" حيث امتد صراع النفوذ الإقليمي إلى هذه المناطق.

ويشير إلى أنّ ما حصل في تلك المناطق هو "صراع نفوذ" فضلًا عن وجود "إرباك" في العملية السياسية فيما يتعلق بتبني خيار المادة 140 التي أوجدت ما يطلق عليه بالمناطق المتنازع عليها، وأحدثت خللًا في الجغرافيا العراقية رغم مرور عقدين من الزمن". 

"تفريغ" جرف الصخر

حاول فريق "العربي" جاهدًا الدخول إلى جرف الصخر لتوثيق الأحداث، لكن المهمة كانت مستحيلة ومهددة لحياتهم أمام قوة الميليشيات التي بسطت سيطرتها على المدينة وأصبحوا هم الحكام الفعليين لها.

فمنذ نهاية أكتوبر/ تشرين الأول عام 2014، جعلت هذه الميليشيات المدينة عرضة للمساومات والصفقات السياسية، بل قاموا بتغيير معالمها وتحريف اسمها إلى "جرف النصر". 

وجرى التفريغ شبه الكامل لمدينة جرف الصخر من سكانها الأصليين. وأصبحت أراضيها العامرة بؤرة لزراعة المخدرات، وتحوّل الجزء الآخر إلى قاعدة عسكرية ومعسكرات تدريب للميليشيات. وقاموا بإنتاج الصواريخ والقذائف التي تزعزع أمن المنطقة بأسرها.

كُتب على نازحي جرف الصخر قضاء عشر سنوات عسيرة بخيام غير ملائمة وبيئة غير صحية تفتقر للخدمات الأساسية.
كُتب على نازحي جرف الصخر قضاء عشر سنوات عسيرة بخيام غير ملائمة وبيئة غير صحية تفتقر للخدمات الأساسية.

وتحظى هذه الناحية الصغرى بأهمية إستراتيجية كبيرة بسبب طبيعتها الجغرافية وموقعها الحيوي الذي يربط بين المحافظات الغربية والوسطى والجنوبية.

تقاعس حكومي

وقد اعتبر ممثلون عن محافظة بابل أن كل من يطالب بعودة أهالي جرف الصخر هم من الإرهابيين. ويرى الصحفي سلام خالد أن من يؤخر عودة النازحين إلى جرف الصخر والمناطق الأخرى هم سياسيون متناغمون مع التوجهات الإقليمية.

من جهته، يعتبر المتحدث الرسمي باسم وزارة الهجرة العراقية علي جهانكير أن إعادة النازحين إلى المدينة دون تأمين الظروف هو نزوح ثاني. 

وعلى مدار الأعوام من 2017 إلى 2023 أطلقت حكومات العراق المتعاقبة تعهدات قاطعة بخصوص عودة أهالي جرف الصخر وإغلاق هذا الملف إلى الأبد، لكن الوعود تحطّمت على صخرة سطوة الميليشيات التي كانت على ما يبدو فوق سلطة الدولة. وهو ما أقرّه الكثير من مسؤولي العراق عن وجود عوائق صعبة تمنع عودة هذه العوائل المقيمة في الخيام إلى مناطق سكناهم.

وقد تحوّلت قضيتهم إلى مادة انتخابية يستخدمها المرشحون في كل دورة لأجل كسب مزيد من الأصوات بعدها لا قول ولا كلام ولا يُسمع صوتهم. وغدت أزمتهم نقطة سوداء في ملف ثلاث حكومات متتالية فشلوا في حل عقدتهم. 

معاناة النازحين في الخيام

ويوضح مدير القطاع الثاني في مخيم بزيبز محمد حسن أحمد في حديث إلى "العربي" أن وضع النازحين صعب جدًا حيث يصعب السكن في الخيام صيفًا، مشيرًا إلى أن الحكومة لا تقوم بدورها تجاه هؤلاء النازحين. 

وتناشد النازحة العراقية فرحة الحكومة لتأمين منازل صالحة للسكن لإنهاء معاناتها المستمرة منذ 7 سنوات. 

ومن جهته، يعتبر الصحفي سلام خالد أن ملف النزوح مسؤولية وزارة المهجرين التي لم تقم بمهامها كما يجب منذ تشكيلها عام 2013. ويقول: "إن كل من يتهم هؤلاء النازحين بالإرهاب هو معرقل لعودة النازحين"، مشيرًا إلى أن الحكومة لم تف بتعهداتها بإنهاء ملف النزوح.

لكن الخبير الأمني أحمد الشريفي يعتبر أن المواقف التي تعبر عن خشية هي غير مبرّرة حيث تغيّرت الأوضاع في العراق ولم يعد هناك من يتبنى هذا الفكر الأيديولوجي. 

أمّا جهانكير فيعتبر أنه عند توفر الظروف الملائمة سيفتح الملف لعودة من يرغب من النازحين بالعودة حيث اندمج عدد كبير منهم مع المجتمع المضيف بسبب طول فترة النزوح. 

ففي جرف الصخر تحوّل الوطن إلى خيمة ويقضي الأطفال مراطع الصبا وسط حياة شاقة، وكُتب على نازحي جرف الصخر قضاء عشر سنوات عسيرة في خيام غير ملائمة وبيئة غير صحية تفتقر إلى الخدمات الأساسية. فلا مياه نظيفة ولا مرافق صحية ولا كهرباء. ويضاف إلى هذه المأساة سوء التغذية في ظل شح الطعام والدواء. 

سجّلت مخيمات وفاة العديد من الأطفال وكبار السن نتيجة موجات البرد والحر.
سجّلت مخيمات وفاة العديد من الأطفال وكبار السن نتيجة موجات البرد والحر.

ولم تنته محنة أبناء جرف الصخر، حيث سجّلت مخيمات وفاة العديد من الأطفال وكبار السن نتيجة موجات البرد القارص التي تهبط إلى ما يقارب الصفر في الشتاء، وحرارة الصيف اللاهبة التي تصل إلى أكثر من 50 درجة، مع انعدام تام لوسائل التكييف. 

وأسهم الانسحاب المبكر للمنظمات الإنسانية الدولية وتقاعس الحكومة العراقية في تفاقم معاناة هؤلاء النازحين. وظهرت على وجوههم معالم قهر الرجال الذين تضاءلت آمالهم بالعودة رفقة عوائلهم إلى جرف الصخر مرة أخرى.

وقد زادت صياغات الحكومات العراقية المتعاقبة من تعقيد المشهد لأهالي جرف الصخر ولا سيما مع إغلاقهم العديد من مخيماتهم وقطع حبل الأمل عنهم، فحتى القسط الضئيل من الاستقرار والأمان عُذر عليهم فهم لن يعودوا إلى مواطنهم التي عمها الخراب والدمار وبيوتهم التي هُدمت بفعل الحرب والزمن. فانطلقوا إلى مستقبل مجهول في رحلة جديدة من التشرد والعذاب بحثًا عن مناطق أخرى تأويهم بعدما ضاقت عليهم أوطانهم. 

غياب الإرادة الدولية لإنهاء ملف النازحين

ويرى الشريفي أن العراق ماض بلعب دور إقليمي يحتاج أن يتمتع باستقرار أمني، لكن "تحقيق ذلك يتطلب قرار سياسي قوي وجريء وإلى مؤسسات تؤدي مهامها الدستورية وإلى شعب واع يحسن اختيار من يمثله سياسيًا". 

وفي هذا السياق، يعتبر الصحفي سلام خالد أن ملف النزوح في العراق يعد ملفًا سياسيًا ويحتاج إنهاءه تحويله إلى ملف قضائي واجتماعي، مشيرًا إلى ضرورة وجود إرادة دولية وإقليمية تفرض على الحكومة العراقية معالجة ملف النزوح. 

واتسع الخرق على الراتق ولم تنجح كل المطالبات والمناشدات المحلية والدولية في إنقاذ النازحين في العراق. واستمرت الحكومة والميليشيات المسلحة في غلق أبواب مدينة جرف الصخر أمام سكتنها المشردين.

ومثّل 180 ألف مواطن من نازحي جرف الصخر نموذجًا حيًا لمعاناة أكثر من مليون نازح عراقي لم يتمكنوا من العودة حتى الآن. منهم قرابة 40 ألف عائلة تعيش في المخيمات التي تهالكت بمرور الزمن كما تهالكت أرواحهم المتعبة. وما معاناتهم إلا وجه من معاناة أهل العراق، أهل التاريخ والحضارة والغني بالثروات.

المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close