أحسن الرئيس التونسي، قيس سعيد، في تفسير معنى التسميم في اتصال عبد الفتاح السيسي معه، وقد هنّأه الأخير بنجاته من محاولة اغتياله بالسم، فبحسب ما نقل موقع الرئاسة عن حديث الرئيسين، فإن "السموم الزعاف هي التي تستهدف الشعوب والدول قبل أن تستهدف الأشخاص والقيادات". طبعاً، لم ترد الرئاسة التونسية لا على كلام النيابة العامة التي نفت وجود سم في المظروف، ولا قدّمت للرأي العام التقرير الطبي للمستشارة نادية عكاشة التي قال بيان الرئاسة إنها أصيبت بفقدان شبه كلّي للبصر بعد فتح المظروف، ولم تجب الرئاسة عن أسئلة بديهية سألتها الصحافة: هل يعقل أن تنشغل المستشارة الأولى للرئيس بفتح مظاريف البريد؟ هل يمكن أن تفتح بريداً مجهول المصدر؟ في حال تأثر بصرها، كيف اهتدت إلى ماكنة إتلاف الورق؟ ولماذا أتلفت المظروف المشبوه؟
في الواقع، ما حدث في تونس يشكل ذروة تسميم الأجواء السياسية في البلاد، التي اجتمعت عليها كوارث تتطلّب أقصى درجات المسؤولية، سواء جائحة كورونا أم الأزمة الاقتصادية، أم الاستقطاب السياسي.. بدلاً من أن يرتقي الرئيس إلى مستوى المسؤولية، ويكون أباً جامعاً للتونسيين، انشغل بشكل شعبوي فجّ في صناعة خصوم، وانخرط في لعبة الاستقطاب، متحالفاً مع عبير موسي أسوأ رموز حقبة بن علي، ففي اليوم الذي استهدفت فيه مجلس النواب باستخدام مكبرات الصوت لتخريب جلسة النواب، تجول سعيّد مساء في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة، ليستمع إلى خطابات مناصريه بحل مجلس الشعب، ولم يصدر عنه دفاع عن المؤسسة الدستورية الأولى في البلاد، بل بدا متورّطاً في التآمر عليها. فموقع الرئاسة بث الهتافات "العفوية" التي تُطالب بإسقاط البرلمان. وعندما زار رئيس الحكومة وزير الداخلية، بثت محاضرة طويلة للرئيس، ولم ينقل الموقع كلمة واحدة لرئيس الوزراء الذي اختاره سعيّد نفسه، وأخذ ثقة مجلس الشعب، ولم يعط الرئيس وزناً لثقته برئيس الحكومة ولا لثقة مجلس الشعب به.
لا يحتاج سعيّد إلى هذا كله لبناء إرثه، وإنقاذ تونس. لقد عقد المؤمنون بالربيع العربي آمالهم عليه في حماية النموذج العربي الوحيد للتحوّل الديمقراطي، فقد تمكّن من هزيمة شعبوي آخر يمثل الثورة المضادة بوضوح، وتحالفت كل قوى الثورة لدعمه. لم تكتمل الفرحة، وخلال فترة بسيطة دسّ له السم الذي تحدث عنه. وحوّله إلى زعيم شعبوي يهدّد بناء الدولة والمجتمع، فلا يقيم وزناً للأحزاب التي تشكل عماد الحياة السياسية، ويستخف بمجلس النواب الذي يعتبر أهم المؤسسات المنتخبة في الدولة.